حديث الصحارى… أول الكرّ خيمة ووحدة
لم تتوقف احتجاجات القوى المعارضة الإسرائيلية لحكومة بنيامين نتنياهو الحالية؛ حيث ما زالت تنظم في كل نهاية أسبوع المظاهرات في ساحات عدة مدن يهودية، بمشاركة عشرات آلاف المواطنين المعارضين لبرامج الحكومة، والمطالبين بالمحافظة على الديمقراطية وعلى استقلالية الجهاز القضائي، والمحذرين من قيام نظام حكم فاشي سيؤدي إلى نهاية الدولة التي آمنوا بها ودافعوا عنها.
ما زلنا نجهل كيف سينتهي هذا الفصل في تاريخنا، نحن المواطنين الفلسطينيين في إسرائيل، ولا كيف سيكون شكل الاحتلال الإسرائيلي للضفة الغربية ومصيره، خاصة فيما يتعلق بالوضع الديموغرافي هناك؛ لكنني أجزم أننا قادرون على التأثير في مجريات الأحداث، لاسيما في هذه المرحلة المعقدة، التي بات الكثير من الإسرائيليين فيها مقتنعين بأن الإبقاء على شكل الاحتجاج الموجود وروتينيته والتمسك بشعاري الديمقراطية والمحافظة على النظام القضائي القديم، رغم أهميته، لن يوقفوا، في النهاية، زحف القوى اليمينية المتطرفة، ولو كان بطيئا، نحو تحقيق أهدافهم، ولن يمنعهم من الاستيلاء على مرافق الدولة، وشروعهم في تنفيذ «خطة الحسم» التي يريدون منها القضاء على مشروع التحرر الفلسطيني وإقامة الدولة الفلسطينية في الأراضي المحتلة؛ من جهة، ومن جهة ثانية، تحديد مكانتنا القانونية، نحن المواطنين الفلسطينيين في إسرائيل، وفق تراتبية «قانون القومية» الذي وضع اليهود في الدولة في المكانة الأعلى، وتحتهم سيعيش الباقون، غير اليهود.
في مظاهرة الألوف ستقول الجماهير لكل العالم ولإسرائيل: لن نسكت بعد الآن وسندافع عن حقوقنا ومن أجل بقائنا العزيز والحر في وطننا
لقد ضيّعت القيادات العربية كثيرا من الوقت، في حين كان موقف معظمهم الوحيد الواضح يقضي بعدم المشاركة في مظاهرات الاحتجاج اليهودية دون أن يطرحوا للناس بديلا نضاليا عمليا، ولا خطة حقيقية تخاطب عقول المواطنين وتستقطبهم، من أجل الانخراط في مواجهة برامج الحكومة ومخططاتها القمعية ضدهم. لست في معرض مناقشة الحجج التي سيقت في تبرير ضرورة مقاطعة مظاهرات الاحتجاج اليهودية؛ فبعضها كانت، بلا شك، ذرائع سياسية تستدعي المناقشة؛ ولكن تبقى أخطرها تلك التي وصفت الحالة الإسرائيلية الراهنة كحرب يهودية – يهودية ستفضي لا محالة إلى القضاء على دولة إسرائيل، وسيكون النصر جراءها للعرب/ للمسلمين/ للفلسطينيين، بهذا الترتيب حسب هوية المنجم، أو المؤمن، أو المتمني. لم يجرِ أحد دراسة جدّية حول مدى انتشار هذا الموقف بين المواطنين العرب، ولا حول تأثيره الحقيقي على تحييد جاهزية الجماهير وإخماد استعدادهم للنضال، وخلقه لحالة من «العقم الهوياتي»، التي أدّت في الواقع إلى بقائهم في منازلهم أو في العمل، غير مستنفرين ولا يخرجون للشوارع من أجل الدفاع عن حقوقهم وعن بيوتهم وعن مستقبل أولادهم وأحفادهم؛ فإسرائيل باتت لدى هؤلاء ومنظّريهم أوهى من خيوط العنكبوت. كما لم تُعدّ أي جهة عربية، محلية أو خارجية، دراسة جدّية حول صحة هذه المقولة وحقيقة وصول إسرائيل، نتيجة للصدام القائم بين المعسكرين السياسيين الواضحين، «قاب قوس وأدنى» من الانهيار، أو الاندثار، كما يزعمون. ورغم إبداء بعض المحللين السياسيين اليهود والمتخصصين بقضايا الأمن، مخاوفهم من التصدع الحاصل داخل المجتمع الاسرائيلي، نعرف أن إسرائيل، التي تشهد صراع أبنائها الحالي، محكومة ومحصّنة بعدة عوامل قوة ومراكز قوى، عميقة وخفية، مازالت تحافظ على صمتها أو على احتجاجها الهادئ وبعضها محتجب ولم يقل كلمته الأخيرة في تداعيات الأحداث، ولكن يبقى السؤال الأهم الذي يجب أن يجيبنا عليه أصحاب نظرية «خيوط العنكبوت»، هو: كيف سيضمنون لنا أنه في حالة سقوط نظام الحكم الحالي، وفشل حركات المعارضة في صدّ مخططات الحكومة الحالية، سوف تسقط إسرائيل، ولن تولد إسرائيل الجديدة بعدّتها وعتادها وعقيدتها المعلنة على الملأ. كان واضحا أن غياب المؤسسات العربية القيادية المحلية عن مشهد معارضة هذه الحكومة الخطيرة والمتطرفة، ليس طبيعيا ولن يطول، وهذا فعلا ما بدأنا نراه في الآونة الأخيرة، فقد بدأت لجنة المتابعة العليا تأخذ دورها الطليعي في التحرك التدريجي في محاولة منها لاستعادة ثقة الجماهير بها، ودعوتها إلى وقوفهم مجددا إلى جانبها ومعها في أنشطة الاحتجاج والنضال، ليس على صعيد ما سماه اليمين زورا «خطة الإصلاح القضائي» وحسب، بل ربط ذلك بقضية استفحال ظواهر الجريمة والعنف داخل المجتمع العربي، مع التأكيد طبعا على مصدر الشر الأكبر وهو الاحتلال الإسرائيلي. لقد لبّى آلاف المواطنين نداء لجنة المتابعة ولجنة الرؤساء القطرية، وقادة الأحزاب العربية، وشاركوا في الثالث والعشرين من شهر مايو المنصرم في مسيرة السيارات الكبرى التي أدّت إلى إغلاق بعض الشوارع الرئيسية في البلاد، وشكلت حدثا لافتا ليس داخل المجتمع العربي وحسب، إنما على مستوى الدولة ومواطنيها، ثم جاءت مبادرة لجنة المتابعة لإقامة خيمة اعتصام أمام مكاتب رئيس الحكومة في القدس، مطلع الأسبوع الفائت. استمر الاعتصام ثلاثة أيام ونجحت الخيمة باستقطاب اهتمام جماهيري وإعلامي واسعين، حيث أمّها المئات من المواطنين العرب واليهود، مع بروز واضح لوسائل الإعلام العربية والعبرية والأجنبية. شارك في الاعتصام عشرات من رؤساء المجالس العربية والشخصيات السياسية، وقادة مؤسسات المجتمع المدني، العرب واليهود. انتهى الاعتصام بالخيمة بمؤتمر صحافي كبير أعلن فيه محمد بركة رئيس لجنة المتابعة، أن الخطوة المقبلة ستكون تسيير مظاهرة حاشدة في مدينة حيفا، وقال: «نريدها مظاهرة بمشاركة عشرات الألوف لتكون حدثا مفصليا» وأضاف: «نستطيع القول إننا اليوم أقوى مما كنا عليه من قبل، فحراكات الأسابيع الأخيرة جنّدت مجموعات لا يستهان بها من الناشطين الذين زاروا الخيمة، وأكّدوا التزامهم بأي قرار مستقبلي في هذا الصدد». فهل يكون أول الكرّ وحدة فمسيرة فخيمة؟ ننتظر ونأمل.
لقد شهدت الكنيست خلال الاعتصام في الخيمة، وبمبادرة من كتلة الجبهة والعربية للتغيير، بحثا خاصا حول قضية الجريمة والعنف داخل المجتمع العربي، بعد أن وقّع أربعون نائبا على طلب يلزم حضور رئيس الحكومة الجلسة. ومع تصاعد عمليات الاحتجاج العربية، وبعد جلسة الكنيست اضطر نتنياهو أن يجتمع لاحقا مع أعضاء الكنيست العرب، الذين قدموا له لائحة مطالب عملية وعرضا سياسيا يشرح خلفية تنامي هذه الظاهرة داخل المجتمعات العربية. من الضروري أن ننتبه إلى أنه إلى جانب أعضاء الكنيست العرب، وقّع على طلب عقد الجلسة الخاصة عشرات النواب اليهود. هكذا فقط تم إلزام نتنياهو، بحضور الجلسة كلها، وإلزامه بالرد على موضوعها في بث حي شاهده المواطنون. قد يستخفّ البعض بهذا التعاون وبدعم بعض أعضاء الكنيست اليهود لمبادرة نواب الجبهة والعربية للتغيير، وقد يقلل آخرون من أهمية حضور عشرات الشخصيات اليهودية ومن بينهم أعضاء كنيست ومديرون وناشطون في جمعيات كبيرة ومحاضرون، ومؤازرتهم لمطالب المواطنين العرب؛ لكنني، وكنت هناك وسمعت مداخلات بعضهم، أشعر بأنهم يؤكدون بحضورهم وبمواقفهم كيف يجب أن يكون النضال ضد سياسات هذه الحكومة وضد مخاطرها. فالنضال اليهودي العربي في ظروفنا الخاصة، هكذا أومن، شرط حيوي وضرورة سياسية لنجاحنا وصمودنا في وجه الفاشية الداهمة.
قد تكون المظاهرة التي نظمها الحزب الشيوعي والجبهة الديمقراطية في الثالث من يونيو الفائت في تل ابيب شاهدا آخر على ضرورة النضال العربي اليهودي المشترك؛ ففي ذكرى مرور ستة وخمسين عاما على حرب يونيو 1967 سار آلاف المتظاهرين اليهود والعرب حاملين شعارات تندد وتطالب بكنس الاحتلال الإسرائيلي، وتؤكد في الوقت ذاته استحالة تحقيق الديمقراطية مع وجود الاحتلال، رددوا كذلك شعارات تطالب بمساواة المواطنين العرب؛ فلا ديمقراطية دون مساواة حقيقية كاملة، وبعضهم كانوا يهتفون «فري بالستاين»، وضد التجند في جيش الاحتلال.
كانوا بضعة آلاف، لكنهم هتفوا وسط تل أبيب بالهتافات السياسية الصحيحة التي نحن بحاجة لترسيخها في هذه المرحلة الحرجة. أعرف يهودا كثيرين، كما قلت في بداية مقالتي، توصلوا إلى نتيجة مفادها أن ما قاموا به كان مهما، لكنه لم يعد يكفي اليوم، فنداءاتهم من أجل الديمقراطية استنفدت تأثيرها، وإن كانت ضرورية في بداية الاحتجاجات كمقدمة لتعطيل تمكين هذه الحكومة الخطيرة من الشروع بمخططاتها، لم تعد كذلك بعد مرور هذه الأشهر. نحن لا نعرف أعداد هؤلاء الصحيحة، لكنهم موجودون بكثرة وفي جميع البلدات والمدن والمواقع، وهم بحاجة إلى من يقودهم أو يرشدهم أو يقف أمامهم ويصوّب هتافهم ضد الاحتلال وضد الفاشية ومن أجل المساواة والديمقراطية. هذه هي مسؤولية القياديين العرب وتنظيماتهم، ومسؤوليتهم في الشروع، اليوم قبل الغد، في بناء جبهة عريضة ضد الاحتلال والفاشية والعنصرية والعنصريين. لقد آمن الحزب الشيوعي الإسرائيلي والجبهة الديمقراطية بهذه المبادئ وعملوا في بعض الحقب التاريخية بهديها، وما حدث لهم في هذه السنين وتقاعسهم في تحمّل المسؤولية الواجبة ليس إلا هجراً لمعتقداتهم التاريخية.
لقد استبشر محمد بركة خيرا، ومعه مجموعة من الخطباء في خيمة الاعتصام في القدس، من الحراكات التي تمت في الأيام الأخيرة، ووقف على الجبهة الأخرى ايمن عودة وامجد شبيطة وصوّبا بوصلة تل أبيب نحو الاحتلال، وستنضم حيفا في مظاهرة الألوف التي ستقول فيها الجماهير من جديد لكل العالم ولإسرائيل: لن نسكت بعد الآن وسندافع عن حقوقنا ومن أجل بقائنا العزيز والحر في وطننا؛ وللقيادات المحلية ستقول الجماهير: نحن بحاجة للمّ شملكم يا قادة والعودة معا إلى مياديننا، فهي هنا، في المثلث والنقب والجليل، وليس، كما يريدها البعض في طهران أو الخليج أو الخليل.
كاتب فلسطيني
القدس العربي