القوى الإقليمية الجديدة والمقاربات المتجاوزة
يصعب على القيادة التقليدية للمجتمع الدولي، أن تقر بصريح العبارة المنعرج الجديد الذي دخلته العلاقات الدولية، أي بعبارة أخرى، المنعرج الجديد الذي دخله عالمنا. فالعبارة الأخرى التي تفرض نفسها فوق هذه وتلك: تعدد الأقطاب. وطالما لم يقع إدخالها في برمجية التعاملات بين الأمم، ستظل العلاقات الدولية محكومة بآليات متجاوزة ستسقط ذات يوم حتما بالتقادم. في قلب تحديات المعادلة الجديدة: تركيا وإيران، إيران وتركيا – اتعمد هنا ذكر القوتين المعنيتين على سبيل الندية بلا مفاضلة لأن من المعروف أنهما تطمحان إلى مرتبة القوة الإقليمية في منطقة الشرق الأوسط بحاضنة روسية – صينية مشتركة.
من هنا، عندما سيأتي يوم التفاوض لوضع حد للصراع الدائر بين روسيا وأوكرانيا، وسيأتي حتما – لن يقدر المجتمع الدولي على الدخول في جولات جديدة من المحادثات من دون أن تكون جديدة فعلا، أي الأخذ بعين الاعتبار المعطيات الجديدة التي تفرضها هذه القوى الإقليمية الصاعدة. صار هذا ديدن إيران التي فرضت نفسها بـ»دبلوماسية الطائرات المسيرة» وأيضا باحتجاز معتقلين كعامل ضغط على المجتمع الدولي الذي ترى إيران فيه دورا قياديا في إيجاد صيغة لاتفاقية فيينا قابلة للتعايش السلمي.
مسألة التعايش السلمي تنطبق على الخريطة الجديدة التي يفرضها عالم متعدد الأقطاب، ولأن القطبية المتعددة صارت تشمل أكثر من دولة فإذن بتنا في مواجهة عالم متشرذم الأقطاب
أما شأن تركيا بخصوصياتها الحضارية، الاقتصادية والجغرافية، فقد جعل المجتمع الدولي يقرأ في سلوكها ضربا من الإبهام، في ما تفعل المسافة التاريخية فعلها لتقديم قراءة أكثر عمقا، وبالتالي أكثر منطقا: لا يمكن لقيادي تركي أن يغيب الإمبراطورية العثمانية – فهي من صميم الذاكرة الجماعية، ولا يمكن لقيادي تركي أن يغيب المزاوجة بين الأصالة والحداثة، وهذا يعني النسج على منوال الليبرالية، ولا يمكن أن يغيب عن ذهن قيادي تركي، ولا عن ذهن المجتمع الدولي موقع تركيا الجغرافي الاستثنائي، الذي طرح على المحك لسنوات ملف دخول تركيا الاتحاد الأوروبي، والذي أرسى دعائم انتماء تركيا إلى حلف شمال الأطلسي. من هنا، لا مفر للمجتمع الدولي من التعامل مع الطرف التركي بالتعويل أيضا على الأوراق التي يمكنه أن يقدمها في تعزيز الاستراتيجية الأمنية على الحدود الأوروبية، خاصة في وقت لا يزال موضوع الهجرة مطروحا في قلب المقاربات المستقبلية. مقاربات، هنا أيضا كلمة لا بد منها، فغالب المراقبين مستمرون في تناول الملفات الإقليمية على منوال الموقف الأمريكي والأوروبي نسبيا. لكن في سياق لم يعد فيه ممكنا تجاوز وزن كتلة الدول الناشئة، ستزداد شرذمة الأقطاب، ومعها ضرورة إعادة صياغة المقاربات بطريقة تدمج مطالب القوى الصاعدة، أكانت تجارية أم – وهنا نحتاج إلى نحت لفظي آخر – نفوذية.
نفوذ.. يتحتم على هذه الكلمة أن تجاور كلمة «مقاربة»، لأن النفوذ أكان ناعما، أم خشنا معطى لا مفر منه، وبالدرجة الأولى عند دخولنا عالم متعدد الأقطاب، فليس من مصلحة دول المجتمع الدولي الرائدة تقليديا أن تصطف على مصالح الدول الطامحة إلى مرتبة القوة الإقليمية، كما ليس من مصلحة الدول الطامحة إلى مرتبة القوة الإقليمية أن تصطف على مصالح دول المجتمع الدولي الرائدة تقليديا. مسألة التعايش السلمي التي طرحناها قبل قليل، تنطبق أولا على الخريطة الجديدة التي يفرضها عالم متعدد الأقطاب، ولأن القطبية المتعددة صارت تشمل أكثر من دولة غير روسيا والصين وتركيا وإيران، كالهند ودول مجموعة البريكس على سبيل المثال لا الحصر، من الواضح أننا بتنا في وارد مواجهة عالم متشرذم الأقطاب.
وعلى هذا الأساس، مفهوم تعدد الأقطاب نفسه ينتمي إلى المقاربات المتجاوزة.
باحث أكاديمي وإعلامي فرنسي
القدس العربي