«روبن هود» في مهمة فاشلة في الجزائر
مرت سنوات طويلة غاب فيها اسم الجزائر عن مهرجان «كان». فقد دخلت السينما الجزائرية، في العقد الأخير، مسلكاً صعب عليها الخروج منه، مع تغول الرقابة من جهة، ومن جهة أخرى إصرار الجهات الرسمية الداعمة لأفلام تتراوح بين تمجيد الماضي أو مدح الحاضر ـ بشكل مبطن ـ فتغلبت السياسة على الفن، وصرنا نشقى في العثور على أفلام تستحق المشاهدة. مع ذلك ظهر هذا العام فيلم جديد، دخل مهرجان «كان» ـ لكن خارج المنافسة ـ مع أنه فيلم يحمل جنسية فرنسية، لكنه صوّر في الجزائر، بمشاركة ممثلين محليين، هو فيلم «عمر لافراز» للمخرج إلياس بلقادر.
أن نرى فيلما يعرض صورة عن الجزائر، في هذا المحفل السينمائي الكبير، فذلك أمر يستحق أن نتوقف عنده، كي نرى شكل التعامل مع السيناريو، وكيف هي صورتنا في شاشات الآخر. حين نقرأ ما جاء في ملخص الفيلم نشعر بأننا بصدد عمل من شأنه ملامسة الهامش والمسكوت عنه، في البلاد، حيث يظهر في النص التعريفي ﻟ «عمر لافراز» الممثل القدير رضا كاتب في دور البطولة، متقمصاً شخصية قاطع طرق، قضى دهراً في السجون في فرنسا وخارجها، جراء عمليات سرقة واحتيال، قبل أن يعود إلى بلده مع بصديقه روجيه (بونوا ميغيمال) كي يبدأ حياة جديدة. تبدو مقدمة مثيرة للاهتمام، في فيلم يقتبس فكرته من أسطورة (روبن هود) الذي كان يسلب الأغنياء من أجل إطعام الفقراء. لكن «روبن هود» الجزائري ـ في هذا الفيلم ـ لم يكن في حيلة وذكاء الشخصية الأسطورية، بل بدا عليه أنه يحاول تقمص الدور ـ مرغماً ـ متقبلاً سيناريو يبدو أنه كتب على عجل، يميل إلى الكشف عن مناطق الظل في الجزائر، من غير فهم لها، هكذا صارت مهمة (روبن هود) الجزائري فاشلة، لأنها قامت على التحوير بدل الأصالة، على تدوير كليشيهات قديمة، ودمجها في الفيلم عنوة، حيث يبدو لنا ـ في بعض المرات ـ أن بعض المشاهد جرى حشرها، لأنها لا تخدم الفكرة الأساسية التي بُني عليها العمل، يضاف إلى ذلك عدم الربط بين المشاهد نفسها، وتنقلها بين خلفيات موسيقية، لا علاقة لها بالمشاهد ذاتها.
بين بوليسية ورومانسية
من البداية، نشعر بأن مخرج الفيلم لا يعلم إلى أي وجهة يوجه خطة العمل. بدا غير متأكد مما يود قوله، مشتتاً بين فكرتين تتزاحمان، فتلغي إحداهما الأخرى، هل يود أن يسرد على المشاهد قصة بوليسية، من خلال شخصية البطل الذي عرف السجون والمطاردات، ثم عاد إلى الجزائر وتعاطف مع جماعات أشرار من الشبان، بل صار قدوة لهم؟ أم يود أن يحكي لنا قصة غرامية، بين البطل مرة أخرى وفتاة تعمل في المصنع الذي يملكه؟ (وهنا لا يعرف المشاهد كيف صار هذا البطل مالكا لمصنع حلوى، فالأحداث تجري بسرعة). أو ربما أراد المخرج دمج الخطين البوليسي والرومانسي مع بعض، ففشل في الإمساك بهما معاً. لذلك لم يخلُ السيناريو من العثرات، وهذا ما زاد من تعثر الممثلين، الذين بدوا كما لو أنهم بصدد ترديد ما حفظوه، من غير إقناع في مشاهد كثيرة. كما أن الخط البوليسي في الفيلم يبدو غير واضح، لأنه يقوم ـ فقط ـ على مشاهد مفصولة من مطاردات ومن مشاهد حروب شوارع، ليست لها صلة بالقصة الأساسية. لا ننكر ـ في السياق نفسه ـ الجهد الكبير الذي قامت به إدارة التصوير في هذا الفيلم، وتلك الكادرات التي تضعنا في قلب الأجواء الجزائرية، وكان يمكن أن يكتفي المخرج بمكان واحد من الجزائر، تدور فيه الأحداث بشكل مكثف ومقنع، لكنه فضّل الانتقال من مدينة لأخرى، وفي كل مرة ينتقل فيها إلى مدينة يكتب اسمها، ونتوقع أن شيئاً سوف يحصل له علاقة بالمشاهد السالفة، لكن بلا جدوى، لأن الانطباع الذي سنخرج به أننا إزاء بانوراما، أو تجميع صور ومشاهد، جُمعت على شكل فيلم، أطلق عليه اسم «عمر لافراز» هذا التشتت حرم الفيلم من دخول المنافسة الرسمية في مهرجان «كان» وعرض على الهامش، لكن هل ستكون له حظوظ مع عرضه في الصالات؟ هل ستكون له عائدات تجارية؟ يبدو أنها مغامرة غير محسومة العواقب. لأن كل شيء كان جاهزاً من أجل فيلم لائق، فيلم وإن كان فرنسي الجنسية، فقد جعل من الجزائر حلبة له. لكن الاستسهال تغلب على صرامة الفن.
التسلية قبل كل شيء
تابع جمهور السينما فيلم «عمر لافراز» ضمن عروض منتصف الليل في المهرجان، ويبدو أن الانطباع الذي أجمع عليه من شاهد العمل هو ميله الهزلي، يبدو فيلما للتسلية أكثر من أي شيء آخر، بل أيضاً تلك المقاطع التي يتحدث فيها البطل عن ماضيه كقاطع طريق، مثل (روبن هود) معاصر، جاءت في سياق ساخر، بالتالي لا يمكن التعامل معه بجدية في خطيه البوليسي والرومانسي، مع أن ما يُحسب له هو ذلك العمق في محاولة ملامسة الشخصية الجزائرية، في قلقها ونرفزتها، مع أن هذا الخيار لا يعدو أكثر من صورة نمطية، بحكم أن تلك الردود المنرفزة للجزائري ـ التي شاعت عنه ـ بوسعنا أن نراها في أي مجتمع إنساني آخر. لكن إذا أخذنا بعين الاعتبار أنه أول فيلم سينمائي مطول للمخرج إلياس بلقادر، فيمكن أن نقول إنها باكورة تعد بشي آخر ـ أفضل ـ في المستقبل القريب. فقد استطاع أن يصنع ثنائياً متجانساً في فيلمه، على الرغم مما عرفه السيناريو من اختلال، لكن العلاقة بين الممثلين الرئيسيين بدت متجانسة أمام الكاميرا. كما أن «عمر لافراز» يطرح فكرة أخرى مهمة عن علاقة الجزائري المغترب بوطنه، ذلك المغترب الذي يعيش منفى مضاعفاً، لا هو مقبول في أرض المنفى، ولا في أرض الأجداد، التي يعود إليها مثل غريب، كما يحصل مع بطل هذا الفيلم، الذي يحاول أيضاً أن يُظهر الوجه الإنساني من حياة شخص عاش طويلاً مجرما مطلوبا للعدالة، وأن حياته لا تختلف عن حياة أشخاص عاديين.
روائي جزائري
القدس العربي