مَا رَأيْتُ مَنْظَرًا إلّا وَالْقَبْرُ أفْضَعُ مِنْهُ
إنّ الإنسانَ حينما يقسو قلبُه , وتندفعُ نفسُه لطلب الدنيا , وحينما يقرأُ القرآن فلا يتأثرُ ويصلي فلا يُقبِلُ على الله بكليته , ويذكرُ اللهَ فلا يقشعرُّ جلدُه، , ويُذكَّرُ بحديث رسول الله - صلى الله عليه وسلم - فلا تهتزً له شعرة ُمن بدنه , معنى ذلك أنَّ في إيمانه خللاً خطيراً، وأنَّه بحاجة إلى المُرقِّقات، إلى قصةٍ أو إلى موعظةٍ ترقق قلبه، وتدفعُه إلى التوبة وتَحمِلُه على العبادة المتقنة , وتحثه على بذل المال وتقرَّبُ له الآخرة ، لذلك لا بدّ من تذكيره باليقين الذي لا ريب ولا شك فيه وهو القبر.
الموتُ ليسَ منه فوت إنْ أقمتم له أخذكم , وإنْ فررتم منه أدرككم , الموتُ معقودٌ بنواصيكم , فالنجاةُ النجاةُ , فإنّ وراءَكم طالبًا حثيثًا وهو القبر .
فهل رأيتم القبورَ ؟ هل رأيتم وحشتَها ؟ هل رأيتم ظُلمتَها ؟ هل رأيتم شدَّتَها ؟ هل رأيتم ضيقَها ؟ هل رأيتم هوامَها وديدانَها ؟
أمَا علمتم أنَّها أُعدَّت لكم ؟ كما أُعدَّت لغيركم . أمَا علمتم أنّها تنادي عليكم بلسان الحالِ والمقالِ فتقولُ : أنا بيتُ الظُلمةِ , انأ بيتُ الوحشة , أنا بيتُ الدود , قال رسولُ الله - صلى الله عليه وسلم : ( ما رأيتُ منظرًا إلا والقبرُ أفضعُ منه )
واعلموا أيها الأحباب , أنّه ما من يومٍ إلا والقبرُ ينادي على صاحبهِ خمسَ مراتِ بهذه الكلمات : \" يا ابنَ آدم تمشي على ظهري ومصيرُك في بطني , يا ابنَ آدم تضحكُ على ظهري ثم تبكي في بطني , يا ابنَ آدم تأكلُ على ظهري ويأكُلكَ الدودُ في بطني , يا ابنَ آدم تفرحُ على ظهري وستحزنُ في بطني .
عن البراءِ بنِ عازبٍ – رضي الله عنه – قال : بينما نحن مع النبي – صلى الله عليه وسلم – إذْ بَصُرَ بجماعة فقال : \" علامَ اجتمع هؤلاء ؟ قِيل على قبرٍ يحفرونه يا رسول الله قال : ففزع رسول الله - صلى الله عليه وسلم – فبدرَ من بيننا مُسرعًا حتى انتهى إلى القبر فجثا عليه , قال : فاستقبلته من بين يديه لأنظرَ ما يصنعُ , فبكى حتى بلّ الثرى من دموعه , ثم أقبل علينا وقال : \" أَي إخواني لمثل اليومِ فأعدّوا \"
أيها الأحباب : إنَّ فزع النبي - صلى الله عليه وسلم – وجلوسَه على رُكَبِه على شفير القبر وبكاءَه الحارَّ , يذكرنا بيوم الفقر الأعظم , يومَ انتهاءِ الأجلِ وانقطاعِ العملِ يومَ مفارقةِ الأحبابِ ومواجهةِ الحسابِ .
قال أبو ذر الغفاري - رضي الله عنه - : \" أتدرونَ ما يومُ فقري يومَ ادخلُ في قبري \"
تـالله لوعـاش الفتى في دهره ** ألـفاً مـن الأعـوام مالـكَ أمـره
مـتـلـذّذا فـيـها بـكـلّ مـلـيـحـــةٍ ** مـتنـعّمـا فـيـها بنُـعمى عصره
لا يـعـتـريـه الـسّـقـمُ فـيـها مــرةً ** أبـدا ولا تطرى الـهمومُ بـفـكـره
مــا كـان ذلـك كلُّــــه مـمـا يـفـــي ** بـمبـيــتِ أولِ لـيــلـةٍ فــي قـــــــبره
أمّا قولُه - صلى الله عليه وسلم – { أَيْ إخواني لمثل اليوم فأعدوا } وفي رواية { يا إخواني لمثل هذا فأعدوا } . فهي دعوةٌ من نبينا - صلى الله عليه وسلم – إلى إعداد الزاد ليوم المعاد .
فماذا أعددنا لذلك اليوم ؟ وماذا أعددنا لذلك القبرِ ؟ والنبي - صلى الله عليه وسلم – يقول : { القبرُ روضةٌ من رياضِ الجنةِ آو حفرةٌ من حفرِ النارِ } .
كان سيدُنا عثمانُ بنُ عفانَ - رضي الله عنه – إذا شيَّعَ جنازةً بكى حتى يُغمَى عليه فيحملونَه كالجنازة إلى بيته , فقالوا له ذات مرة : قد تَذكر الجنَّةَ والنَّار فلا تبكي وتبكي مِن هذا ؟ قال : نعم , سمعتُ حبيبي رسول الله - صلى الله عليه وسلم – يقول : { القبرُ أولُّ منزلةٍ من منازل الآخرة فإذا نجا العبد منه , فقد أفلح وسَعِد , ومن لم ينجُ منه , فما بعده أشدّ } .
نعم , قد يكون القبرُ روضة من رياضِ الجنةِ , وقد يكون حفرةً من حفر النار, فليست العبرةُ بظاهرِ القبرِ , وإنْ كان في إطارٍ جميلٍ من الرياحين والزهور, بل العبرةُ بباطنه , فظواهرُ القبور ترابٌ , وبواطنُها إمّا حسراتٌ وعذابٌ , أو نعيمُ وثوابٌ .
لمّا مات أبو سلمة - رضي الله عنه - دخل عليه رسول الله - صلى الله عليه وسلم - ثم قال : { اللهم اغفرْ لأبي سلمةَ و افسحْ له في قبرِه ونوِّر له فيه } فيُستَشَف من قول رسول الله - صلى الله عليه وسلم - : \" أنّ القبرَ يَضيقُ ويتَّسِعُ , ويُظلمُ ويُنَوّرُ بحسب مكانةِ صاحبه عند الله , وما كان له من عمل في الحياةِ والدنيا \".
قال أحد العلماء وهو ابن زياد - رحمه الله – : \" لعُمرَ بن عبد العزيز - رضي الله عنه – يا أمير المؤمنين رأيناك وأنت في مكّةَ قبل أن تتولى المُلك في نَعمةٍ , وفي صحةٍ , وعافيةٍ , فما لك قد تغيّرت ؟ فبكى - رضي الله عنه - حتى كادت أضلاعُه أن تختلفت , ثم قال للعالم ابن زياد : \" كيف بك يا ابنَ زياد ؟ لو رأيتَني بعد ثلاثة أيام , يوم أن أُجرَّد الثياب , وأُوسَّد التراب , وأُفارق الأحباب , وأَترك الأصحاب . كيف بك لو رأيتني بعد ثلاثٍ ؟ واللهِ لرأيتَ منظرًا يسوؤك .
فكنْ أخي متيقظًا متشمّرا , واعلمْ أنَّ الإنسانَ بين ثلاثةِ أشياءَ : بليةٍ نازلةٍ أو نعمةٌٍ زائلةٌٍ , أو منيةٌٍ قاضيةٌٍ .
أمّا كيف نستعد لهذا اليوم ؟ وما الزادُ ؟ فيجيبنا عن هذا السؤال , ربُّ الأرضِ والسماءِ , فيقول : { وتَزَودّوا فإنَّ خيرِ الزَّادِ التقوى } .
والتقوى كما قال ابن مسعود - رضي الله عنه - : \" أن يُطاعُ فلا يُعصى , وأن يُشكَر فلا يُكفَر , وأن يُذكَر فلا يُنْسى \"
زار عمرُ بنُ عبد العزيز - رضي الله عنه – قبورَ آبائه من بني أمية , ثم رجع وهو يبكي , فسألَه أصحابُه عن سبب بكائه فقال : \" جئت لزيارة الأحباب والأصحاب فسلَّمتُ عليهم , فلم يردوا الجواب , ناداني القبرُ وقال : ألا تسألُني عمَّا فعلتُ بالأحباب والأصحاب فقلت : وماذا فعلتَ ؟ قال : خرَّقت الأكفان , وأتلَفتُ الأبدانَ , وأكلَتْهم الديدان وسالت منه العينان , فلمَّا ولَّيتُ ناداني القبرُ وقال : ألا أدلُّك على كفنٍ لا يبلى ؟ قلت : بلى , قال : التقوى \".
أيها الأحباب : لمَّا رجع سيدنا علي بن أبي طالب - رضي الله عنه - من إحدى معاركه , كان أولُ عمل قام به , أنْ زار المقبرة , فلمَّا وقف على القبور قال :{ يا أهلَ الديار المُوحِشةَ , والمَحالِّ المقفِرةِ , والقبورِ المظلمةِ , يا أهلَ التربةِ , يا أهلَ الغربةِ , يا أهلَ الوحشةِ , أنتم لنا فَرَطٌٌ سابقٌ , ونحن لكم تَبعٌ لاحقٌ , أمَّا الدورُ , فقد سكنت , وأمَّا الأزواجُ , فقد تزوجَّن , وافترشن فُرُشَكم , وأمَّا الأموال , فقد قُسِِّمَت , هذا خبرُ ما عندنا , فما خبرُ ما عندكم ؟ ثم التفت إلى أصحابه , وقال : أمَا لو أُذِنَ لهم في الكلام لقالوا : إنَّ خيرَ الزاد التقوى } .
والتقوى يصفها القرآن الكريم لنا بقوله : {الم(1)ذَلِكَ الْكِتَابُ لا رَيْبَ فِيهِ هُدًى لِلْمُتَّقِينَ(2)الَّذِينَ يُؤْمِنُونَ بِالْغَيْبِ وَيُقِيمُونَ الصَّلاةَ وَمِمَّا رَزَقْنَاهُمْ يُنفِقُونَ(3)وَالَّذِينَ يُؤْمِنُونَ بِمَا أُنْزِلَ إِلَيْكَ وَمَا أُنْزِلَ مِنْ قَبْلِكَ وَبِالآخِرَةِ هُمْ يُوقِنُونَ(4)أُوْلَئِكَ عَلَى هُدًى مِنْ رَبِّهِمْ وَأُوْلَئِكَ هُمُ الْمُفْلِحُونَ(5(البقرة }
ومَنْ هم المفلحون ؟ هم الذين أدركوا مَا طلبوا , ونجوا من شر ما , منه هربوا .
فأمَّا الزاد , فيدلُنا عليه أبو الدرداء - رضي الله عنه – وقف يومًا أمام الكعبةِ وخطب بالناس وكان مما قال : \" أليس إذا أرادَ أحدُكُم سفرًا تزوَّدَ له ؟ قالوا : بَلَى , قال : فسفرُ الآخرةِ أبعدَ مما تظنون , قالوا : دلَّنا على زاده , قال : حِجُّوا حَجَّة لعظائم الأمور , وصلُّوا ركعتين في ظلمة الليل البهيم لوحشة القبور , وصوموا يومًا شديدًا حرُّه لطول يوم النشور \" .
عمرو بن العاص - رضي الله عنه – رأى مَيْتًا يُقبَر , فبدر من بين يديّ أصحابه مسرعًا إلى المسجد , فصلى فيه ركعتين فقيل له لِمَ فعلتَ هذا ؟ قال : \" عندما أرى القبرَ أو المقبرة , أتذكرُ قول الله عز وجل :{ وحِيْلَ بينَهم وبينَ مَا يشتهون} فاشتهيتُ الصلاةَ قبل أن يُحالَ بيني وبينَها . فيا من تشتهي الصلاة صلِّ قبل أن يُحال بينك وبينها.
هناك أناس قلوبُهم قاسية ، هناك أناس يشيِّعون الجنازة، ويقفون على باب المسجد لا يدخلون ، وكأنّ هذا الذي دخل المسجد ليُصلَّى عليه لن يلحقوه , سمعت هذه القصةَ أيها الإخوة : أنَّ َّرجلاً ، طلب مبلغًا من المال قرضًا يستقرضه ، وعرض أن يضعَ مَزرعته رهناً لهذا القرض ، فوجدَ مَنْ يُقرضُه لهذا الرهن ، وبعد سنواتٍ عدةٍ , أمكنَه أنْ يردَّ القرضَ ، لكنَّ مَزرعتَه تساوي أضعافًا مضاعفةً من القرض ، فقال له الذي تملَّكها رهناً : كلُّ واحدٍ معه حقُّه ، ورفض أْ يردَّ المزرعة , فمِن شِدَّة ألمِه أُصيب بأزمةٍ قلبيةٍ ، لضياعِ مزرعته ، ، وحينما أشرف على الموت أوصى ابنه أنْ يمشيَ بجنازته مِن أمام دكان الذي اغتصب منه المزرعة ، وأن يقف بالجنازة أمام دكانه، وأن يدخل إليه ، ويعطيَه رسالةً من والده المُتوفَى والتي قد خطها بيده قبل أن يموت ، كتب له فيها : \" إنني ذاهب إلى دار الحق , فإذا كنت بطلاً فلا تلحقني \" هل يستطيع أحد ألإفلات من القبر ودار الآخرة ؟
يا من تشتهي صلة الرَّحم , صِلْ رحمك قبل أن يُحال بينك وبينها , ويا من تشتهي فعل الخيرات , افعلها قبل أن يُحال بينك وبينها , ويا من تأكل الربا , تب إلى الله قبل أن يُحال بينك وبين التوبة , ويا من تُخرِج زوجتك وبناتك سافرات عاريات متبرجاتٍ : { قُوا أَنفُسَكُمْ وَأَهْلِيكُمْ نَارًا وَقُودُهَا النَّاسُ وَالْحِجَارَةُ عَلَيْهَا مَلائِكَةٌ غِلاظٌ شِدَادٌ لا يَعْصُونَ اللَّهَ مَا أَمَرَهُمْ وَيَفْعَلُونَ مَا يُؤْمَرُونَ } .
فيا إخوتاه ! ألا تبكون مِنَ الموت وسكراته ؟ ويا إخوتاه ! ألا تبكون من القبر وضمته ؟ ويا أخوتاه ! ألا تبكون خوفاً من النار في القيامة ؟ويا إخوتاه ! ألا تبكون خوفاً من العطش يوم الحسرة والندامة ؟
وأختم بهذا الحديث عن رسول اهمن - صلى اهنك عليه وسلم – أنه قال : ( يا عمر – وكُّلنا عمر - , كيف بك إذا أنت مِتَّ , فانطلق بك قومك , فقاسوا لك ثلاثة أذرع في ذراع وشبر , ثم رجعوا إليك , فغسَّلوك وكفَّنوك وحنَّطوك – أي وضعوا عليك الطيب - , ثم احتملوك حتى يضعوك فيه – أي القبر - , ثم يَهيلوا عليك التراب ويدفنوك , فإذا انصرفوا عنك , أتاك فتَّانا القبر منكرٌ ونكيرٌ , أصواتُهما كالرعد القاصف , وأبصارهما كالبرق الخاطف , يجرَّان أشعارَهما , ويبحثان القبر بأنيابهما , فتلتلاك - أزعجاك - وثرثراك - أيْ رَدَّدا الكلام عليك – وهوَّلاك - خوَّفاك - كيف بك عند ذلك يا عمر ؟ فقال عمر : ويكون معي مثل عقلي الآن ؟ فقال : نعم فقال : إذًا أكفيكَهما – وليس كلُّنا عمر - ) . نسأل الله العفو والعافية .