حبات اللؤلؤ
كان يوما باردا من ايام الشتاء القارص الذي اجتاح عمان في شهر كانون الثاني ، كان الصباح ملبدا بالغيوم السوداء ، والمطر ينهمر بغزارة فوق الارض حتى يتوقف برهة ليعود فينهمر من جديد ، والرياح تعصف بشدة مبعثرة حبات المطر المنهمر في كل مكان حاملة معها هبات برد وصقيع يلفح الوجوه والجباه والاشجار والاحجار .
كل شيء بدا اعتياديا هذا الصباح كانت الساعة قبل الثامنة صباحا بقليل وكنت في سيارتي متوجها الى عملي كالمعتاد حقيبتي بجانبي وكأس مملوء بالقهوة اعتدت شربه اثناء طريقي وصوت فيروز ينطلق برقة من مذياع السيارة يخترقه صوت المذيع يعلن موعد الثامنة وقفت على الاشارة الحمراء التي في طريقي ورفعت صوت المذياع قليلا لاسمع النشرة في الوقت الذي سمعت فيه صوت نقر خفيف على زجاج النافذة.
نظرت لارى مصدر هذا النقر فرأيت وجها صغيرا اكتست حمرة البرد وجنتيه وشعرا اشقرا ناعما بللته قطرات المطر وبعثرته في كل اتجاه .
كان الوجه البريء لصبية صغيرة لم تتجاوز التاسعة من عمرها فتحت النافذة قليلا - خشية على صحتي- لأرى وجه الفتاة حيث ان قطرات المطر المتراجمة على النافذة حجبت عني بعضا من ملامح صورتها بعض دمعات انهمرت من عيني تلك الصغيرة اليانعة وتجمدت من الصقيع على وجنتيها كانها حبات لؤلؤ هو ما رأيته اول ما نظرت اليها تمعني في وجهها الطفولي قطعه صوتها الضعف المرتعش الخارج من فمها كما تخرج الروح من الجسد من شدة البرد الذي تعاني جاء صوتها الناعم ضعيفا كهمسات الورد ونسمات الصباح على عكس الريح العاتية الاتية من الخارج \"الله يخلي لك اولادك ، الله يخليك ، عمو ساعدني\" كانت تخرج منها الكلمات كمن يلقي محفوظة اجتهد في حفظها كان واضحا انها لقنت ما تقول ومع ذلك كانت تخرج الكلمات من فمها الصغير بكل عفوية وخجل نظرت لأرى يدها الصغيرة المرتجفة من البرد وقد امتدت من فتحة الشباك تنتظر ما ستجود به نفسي لالقيه في كفها المرتعش.
نظرت الى عينيها واحسست بشيء يشدني الى ذلك الوجه الجميل ، ويدعوني الى ان ابكي, الا ان دموعي تجمدت قبل نضجها, ربما خوفا ان لا تكون دموعي بجمال وروعة حبات لؤلؤ دموعها, او ربما مكابرة من ان تنزل دموع رجل بلغ من الكبر عتيا. \"ما اسمك يا امورة\" يبدو ان سؤالي شجعها على الاقتراب من النافذة اكثر, مما مكنني ان ارى بعضا من الكدمات والجروح على وجهها .
\"سهير اجابتني بصوت اقول بقليل من ذي قبل \" عمو الله يخلي لك اولادك ، الله يوفقك يا حاج ..\"
اخرجت بعض النقود من جيبي ووضعتها بين اصابعها التي زادت ارتعاشا فرحة وحزنا وصقيعا اجتمعت كلها وانصهرت معا معطية صور حقيقية لواقع اليم.
كل هذا حدث في ثوانٍ معدودة اخذتني معها بعيدا شاردا الى ان افاقني من شرودي صوت زامور سيارة خلفي - لا يقل كثيرا عن صوت بوق القطار- تنبهني الى ان الاشارة اصبحت خضراء وان عليّ الانطلاق ، فنظرت خلفي لارى شاحنة كبيرة يزمجر سائقها كزمجرة زامور سيارته تحركت سيارتي الا ان روحي بقيت مع تلك الفتاة وقد ملأتها مشاعر العطف والحنان والحسرة على تلك الفتاة.
وصلت الى مكان عملي ومضيت بخطي متثقالة الى مكتبي حاملا افكارا مبعثرة كشعر تلك الفتاة التي التقيت هذا الصباح متسائلا مع نفسي ، لماذا لم احصل منها على عنوانها ؟ وهل كانت ستعطيني اياه ؟ هل اسمها الحقيقي سهير ؟ وهل كنت مصيبا عندما اعطيتها بعض النقود ؟ ام انني الحقت ضررا جسيما بها وبمستقبلها مشجعا اياها على التسول ؟
جلست خلف مكتبي شاردا تائها تأخذني افكار متلاطمة كأمواج ا لبحر ودمعات عيني متجمدة كصقيع هذا الصباح .
* مدير عام الشركة المتحدة للتوظيف