بلاد الرافدين بعد انسحاب الجيش الأمريكي
كان احتلال أمريكا للعراق لتحقيق مآربها السياسية وكخطوة على طريق تحقيق المشروع الأمريكي للشرق الأوسط الجديد الذي يهدف إلى خدمة الأمن القومي الأمريكي عبر تقسيم المقسم لكن بلبوس الديمقراطية حسب المقاس المعلن, وبعد أن حققت دول التحالف الغاية المرجوة من احتلال العراق وهي الاستيلاء على آبار النفط العراقية, وبسط هيمنتهم على منطقة الشرق الأوسط, وحماية أمن إسرائيل وتقوية شوكتها لتكون الدولة الأقوى في المنطقة, عملت دول التحالف - وعلى سياسة فرق تسد – على تقسيم العراق إلى ثلاثة دول لا دولة واحدة لإضعافه فهناك دولة كردية في الشمال, ودولة شيعية – تابعة لإيران- في الجنوب, ودولة سنية في الوسط.
إن الانسحاب الذي قام به الجيش الأمريكي من العراق ما هو إلا تكرار لسيناريوهات الاستعمار التي حصلت سابقاً في الدول العربية – إبان الاحتلال البريطاني والفرنسي للدول العربية - وهو استبدال الاحتلال العسكري المُكلِف بالنسبة للدول الاستعمارية إلى الاحتلال الفكري والاقتصادي.
لقد انسحب الجيش الأمريكي من العراق بعد أن أشعل فيه نار الطائفية وزرع الفوضى والرعب والدمار, وجر الويلات على العراقيين من قتل وترويع وتعذيب واستباح أعراضهم وزرع الفتنة الطائفية بينهم. وترك حكومة عراقية عميلة فاسدة وضعيفة لا تملك القدرة على ضبط الأمن بالبلاد, خاصة مع بقاء خبراء واستشاريين عسكريين وأمنيين كما أقر بذلك كثير من المسؤولين العراقيين بحجة المساهمة في ضبط الأمن, وحتى الآن التفجيرات والعمليات النوعية من المقاومة العراقية (السنية) ضد عصابات ومافيات القادة الذين يحكمون العراق - بعد ان كانت تستهدف القوات الأمريكية - لم تتوقف ولن تتوقف بكافة المدن العراقية. انسحب الجيش الأمريكي بعد أن تأكد ان من يحكم العراق الآن هم القادة العراقيين الذين كانوا قد امتطوا صهوة الدبابات الأميركية للقدوم إلى العراق عند احتلاله وكلهم نتاج التربية السياسية الأمريكية الاستعمارية, انسحب الجيش الأمريكي بعد أن تأكد ان من يديرون كفة الحكم من الأحزاب المتنفذة في العراق هم عبارة عن مافيات وعصابات سرقة ونهب وتوزيع ثروات هذا عدا عن عمالتهم.
أن الخطر الأكبر والحقيقي على العراق بعد الانسحاب الأميركي هو الصراع على السلطة والثروة من قبل من يقودون العراق الآن. فقادة العراق الآن هم أكثر قمعاً ودكتاتورية من نظام صدام حسين (رحمه الله) بكثير، والخطر الآخر الذي زرعه الأميركيون ولن يفلت العراق من دوامته هو إشعال الفتنة الطائفية خاصة بين السنة والشيعة المدعومين من إيران, فالوقائع تشير إلى ان إيران جاهزة لملئ الفراغ الأمريكي في العراق, وقد باشرت إيران منذ احتلال العراق وسقوط نظام صدام حسين إلى ملء هذا الفراغ في كافة المجالات بالعراق, وأسهمت بقوة بقمع ثورات الغضب العراقي, ولا يمكن إغفال حقيقة أن إيران صنعت العملية السياسية في العراق بوشاح طائفي سياسي مليشياوي مخطط له بعناية, وعملت إيران كذلك على تقسيم العراق ونهب ثرواته وتفكيك نسيجه الاجتماعي.., وهذا كله لجعل العراق عبارة عن ولاية تابعة لإيران, فابتلاع إيران للعراق يعتبر مكسباً سياسياً وعسكرياً واقتصادياً كبيراً ومهماً لإيران, والأيام القادمة ستكون عصيبة ودموية في العراق في ظل الانشطار والتناسل للعصابات المسلحة الطائفية (المليشيات) المدعومة من إيران دون توازن سياسي أو مسلح, مما قد يقود لإبادة طائفية متوقعة للسنة, بالإضافة إلى سياسة الإقصاء والتهميش وعمليات تصفية الوطنيين والمخلصين من القادة السنيين. الغياب الأمريكي سيدفع ثمنه السنة في العراق أكثر من غيرهم.., حتى ان باحثا أمريكيا قال ما نصه اننا بعد سحب قواتنا من العراق نخشى أن يكون السنة في بغداد في عداد المفقودين. المواجهة قادمة بلا شك فإن لم يبتدئها الشيعة سيبتدئها السنة لأن إمكانية التعايش السني الشيعي باتت مستحيلة ومن الماضي بعد أن فعل ميليشيات الشيعة في العراق ما فعلت من قتل وتنكيل بالسنة.
لقد تركت أمريكا العراق وقد أضرمت فيها نيران الطائفية والمذهبية وتفشي الفساد وغياب الشفافية فضلا عن عدم وجود علاقات سوية تربط بغداد بعواصم العالم العربي على العكس من تلك العلاقة الوثيقة التي تربطها مع طهران, فقد باتت العراق حربة لرمح إيراني وطرفا غير مرغوب به من شتى العواصم العربية.
ان غالبية العراقيين المقيمين خارج بلادهم لا يأملون عودة قريبة للعراق، فهم مدركون أن السنوات العجاف ستلحقها أخرى كذلك، الفساد وغياب التنمية والاصطفاف والإقصاء هي مظاهر سياسة الحكم السائدة التي لم تُعِد لبغداد بهاءها الذي كان يتغنى به العرب وغيرهم طيلة سنوات وعقود مضت, فالمغتربين يعلمون ان هذا الانسحاب فقط سيعزز النفوذ الإيراني في العراق، وهو أمر سيدفع ثمنه المواطن العراقي.
أميركا وبعد كل هذا الوقت في العراق كان بإمكانها أن تمنع وصول العراق إلى هذه الدرجة من العنف و لكنها لم تفعل ذلك يوما ولن تفعله الآن ولا في المستقبل القريب, فعدم استقرار العراق هو مصلحة أمريكية فهو يضمن استنزاف موارد العراق لصالح أميركا سواء كانت موجودة فيه أو منسحبة منة, والحل في مواجهة هذا الخطر لا يكون إلا بوحدة شعب العراق ووعيه لهذه الحقيقة.
إن انسحاب القوات الأمريكية من العراق يثير تساؤلات حول قدرة قوات الأمن العراقية على تأمين حدود البلاد واحتواء الخلافات العرقية والأثنية والطائفية, وخاصة بعد ما جرى في الساحة العراقية من الاحتلال الأمريكي ومقتل آلاف المواطنين, الأمن لا يزال على رأس قائمة المخاوف التي تواجه الحكومة والمواطنين العراقيين, الحكومة العراقية أبرمت صفقة لشراء الطيارات لحماية سماء العراق لكن تبقى القوات الاستخباراتية والحدود والبحرية ضعيفة ولا توجد إمكانية للدفاع عن العراق أمام أي قوة خارجية. لقد وصل الخراب الذي تركه الأمريكان إلى نفسية المواطن العراقي الذي صار يتباه بالعمالة للأجنبي وفقدان الحس الوطني وخاصة الشيعة بتباهيهم بالعمالة لإيران.
بعد خروج الشيطان الأكبر (أمريكا) من العراق ستبقى تحديات كبيرة تنتظر المخلصين والوطنيين من العراقيين لوضع خطة للتعامل مع المرحلة الجديدة. ونتوقع من رجال المقاومة العراقية (السنية) ان تتحول ضرباتهم التي كانت توجه للمحتل الأمريكي إلى مليشيات وعصابات حكام العراق الجدد رغم التواجد الإيراني والداعم لهذه المليشيات, وبإذن الله ستنتصر المقاومة العراقية (السنية) ولو بعد حين. ونتمنى أن يستكمل الشتاء العربي مداه إلى العراق لتطهيره من الفساد والاستبداد المعلق في شخصيات ديكتاتوريه حيث لا رحمه ولا شفاعة لأي متكبر ومتجبر في الأرض.