هامش على فقه الثورة!

الثورات مهما عظمت لا تبدل التكوين النفسي للبشر خلال اربع وعشرين ساعة. او حتى اربعة وعشرين شهرا، وهي بقدر ما تكون قيامة او ولادة ثانية على صعيد ثقافي وفكري يبقى الافراد مسكونين بما صاغ لهم ذكرياتهم وعاداتهم منذ الطفولة، وهذا هو الفارق الحاسم بين ثورة شاملة وجذرية وبين انقلابات عسكرية لا يتغير من خلالها غير ظاهر الخطاب السياسي وربما كان هذا احد اسباب تحول المنقلبين الى طغاة بانتظار من ينقلب عليهم، وما شهده الوطن العربي لعدة عقود لم يكن اكثر من دوران عقيم في هذه الحلقة المفرغة.
ولكي تتحرر الثورة اولا من سطوة الشعارات والوعود غير القابلة للتحقق فهي لا بد من ان تبدأ من عمق النسيج وليس من خيط تالف فيه، واذا كانت الفترات الانتقالية تختلط احيانا بالافعال الانتقامية فذاك شرط بشري يصعب الفكاك منه، لان الناس ليسوا من ملكوت سماوي، انهم من هذا العالم بخيره وشره، وثأريته وتسامحه.
وما سمي الثورة البيضاء في اكثر من زمن واكثر من بلد كان المقصود به عدم اراقة الدماء، رغم ان ما يراق احيانا لا يقل عن الدم، سواء جاء ذلك عن طريق الخطأ في حمى الاندفاع وردود الافعال، او لان هناك من يمتطون الموجة لان لهم "ليلى" اخرى غير الثورة يغنون لها او عليها!
ان اخطر ما يمكن لاية ثورة ان تنزلق اليه هو تحول فئة من الناس الى لجنة تحقيق مع البقية، فالثورة ليست غنائم، وثمة من يضحون بانفسهم خلالها من اجل غيرهم، وهذا بحدّ ذاته ذروة الايثار، لكن المقولة الشهيرة عن وقود الثورات وحصادها سواء نسبت الى جيفارا او سواه تبقى ظاهرة متكررة في التاريخ، فمن يقطف الثمار ليس كمن قضى وهو يسقيها ويرعاها ويجازف بنفسه وهو يحرسها.
وما من ثورة نبيلة وذات بواعث انسانية عميقة باتجاه الثالوث الخالد وهو العدل والحرية والحق الا وشهدت اعراضا جانبية، تماما كما تتغذى اعشاب سامة وشيطانية على جذور الأشجار الباسقة.
وقبل ان تتوصل الشعوب الى الفرز الدقيق بين الاصول والاشباه وقمح الثورات وزؤانها، لابد ان تكون هناك خسائر بسبب الالتباس، واختلاط حابل الحالم بالتغيير بنابل الحالم بالغنيمة حتى لو كانت من اشلاء وطنه وذويه.
ان للثورات فقه ترسخ بسبب تكرارها في التاريخ، فهي لم تعد هوجات او مجرد انفجارات عفوية فقط، لان كل ثورات عصرنا مسبوقة باسلاف من مختلف الانماط، ويخطئ من يصف اي حدث تاريخي باستثناء الكشوفات العلمية بانه غير مسبوق!
وهناك ثورات قيل بانها اكلت ابناءها ثم اعقبتها ثورات اخرى اكلت اباءها واحفادها معا وما فعله الروس عندما حاولوا خلع السكك الحديدية كرد فعل على الحقبة الستالينية الحديدية هو خطأ يتكرر في الكثير من الحالات المشابهة، ونذكر للمثال فقط ان جمال عبدالناصر اجاب احد الراديكاليين من زملائه عندما طلب منه منع ام كلثوم من الغناء لانها غنت للملك قبل الثورة قائلا: لنخلع الاهرام من جذورها ونسجن رمسيس ونعاقب ابا الهول لانهم جميعا من مراحل سابقة على الثورة.
ان من بديهيات فقه الثورات التعامل مع اي منجز علمي او مدنيّ في البلاد على انه اصبح ملكا للامة وقد سبق عمرو بن العاص عبدالناصر عندما رفض ان يتعامل مع تماثيل الفراعنة وانصابهم ومسلاتهم على انها اصنام يجب ان تدمر.
والماركسيون في موسكو وبكين لم يهدموا المدائن المحرمة واثار السلالات الاقطاعية لانها على النقيض من اطروحاتهم...!(الدستور)