حوارية الملح والاسفنج !!

- حكاية قديمة بطلها الحمار وليس الانسان تعلمناها في طفولتنا ولم يكن لدينا من الوعي والخبرة ما يكفي لفهم دلالاتها السياسية والاجتماعية وقابليتها للتأويل، هي ببساطة عن حمارين أحدهما محمل بالملح والآخر بالاسفنج، لهذا كان حمار الاسفنج يسخر من صاحبه المتورط بحمولة الملح الثقيلة، الى ان بلغا مستنقعاً وكان عليهما ان يقطعاه.. فذاب الملح وامتلأ الاسفنج بالماء، وتبدلت الاحوال، فأخذ الحمار الذي ذابت حمولته من الملح يسخر ويثأر لتعبه من صاحبه الذي عبست له الدنيا بعد ان ضحكت له.. وقبل ان نمضي في تأويل الحكاية علينا التذكير بأن الحمار هو رمز ثقافة الصبر والاحتمال في عدة ثقافات.. هكذا قدمه الراحل توفيق الحكيم، وكان أحد اصدقاء الحكيم يضع تمثالاً لحمار على مكتبه وهو الكاتب جليل البنداري وحين يسأله الزوار عن السبب يقول بأنه يتعلم من هذا الكائن القدرة على الاحتمال. وأذكر انني انقطعت عن التدخين شهوراً بعد ان قدم لي الراحل عيسى الناعوري سيجارة من لعبة صممت على شكل حمار وتخرج السجائر منها بطريقة مثيرة للغثيان. وقال الناعوري ان هذه افضل طريقة للاقلاع عن التدخين.
وحين قال لي صديق فرنسي ان الرئيس الاسبق لبلاده فرانسوا ميتران كان يعشق الحمير، ويشفق عليها مما دفعه الى اقامة مزرعة لها، أدركت ان هناك كائنات تستحق اعتذار الانسان لها، فهي لا تكذب ولا تخطط للربح والتكسب وتقدم كل شيء مقابل العلف اذا وجدته.
ولأن حكايات الحمير تطول، ولها امتدادات في الادب والفلسفة والفولكلور فمن الافضل ان نعود الى حوارية الملح والاسفنج فمن عاشوا مدللين في أحضان نظم سياسية فرضتهم على البلاد والعباد لأنها تغلب الولاء على الكفاءة، كان هناك من زملائهم الاكفاء والموهوبين من يكدحون من اجل الكفاف.. وبالتالي ضاعت عليهم وعلى ابنائهم فرص التعليم والثقافة وتحقيق الذات..
ولم يخطر ببال حمير الاسفنج ان التاريخ ماكر، وان دوام الحال من المحال، لهذا لم يتخيلوا ذات يوم انهم سيتورطون بمستنقع لا بد من قطعه، وبالتالي يمتلىء اسفنجهم بالماء والطحالب. ومقابل ذلك يرون من كانوا ينوءون بحمولات الملح يتخففون من حمولاتهم بعد ذوبانها في الماء.. ولو كانت الحمير تنطق لقالت ما يقوله البشر وهو يوم لك وآخر عليك، رغم ان الايام التي للانسان اقل بأضعاف من تلك التي عليه.
ان قابلية حكايات من هذا الطراز للتأويل تشمل التاريخ برمته، فثمة دول وامبراطوريات امتلأ اسفنجها بالماء.. بينما كان الملح الذي تنوء بحمولته دول اخرى يذوب ويحررها من الارهاق.
وهذه مناسبة أدعو فيها جيلنا كله الى اعادة قراءة الحكايات التي كانوا يلقنوننا اياها في الطفولة فنحفظها بدون استيعاب أو فهم ونجهل دلالاتها.. واستطيع ان اذكر عشرات منها، لكن ذاكرة هذا الجيل تعفيني من ذلك، لأنه لم ينسها بعد، لكنه لم يدركها في الصبا، لهذا فهي مديونية معرفية، ينبغي تسديدها.. وكان علينا ان ننتظر عقوداً يشيب الشعر فيها، ويملأ الاسى القلب ويغمر الذاكرة غبار الزمن كي نعرف لماذا عوقب من تحدثوا عن الحيوان واستنطقوه كما لم يعاقب آخرون ويكفي ما جرى لصاحب كليلة ودمنة الذي شوي كالخروف على التنور.
ويبدو ان قدر البشر منذ بواكير تاريخهم ان يتناوبوا على الملح والاسفنج.. لهذا على من يحملون الاسفنج ألا يسخروا من آخرين ما دامت المستنقعات قادمة لا محالة!!(الدستور )