تونس تحتفل بعيد ثورتها الاوّل

- لأول مرة تكتحل عيناي برؤية تونس الخضراء, فقد كانت تمثل في ذهني سجناً أمنياً مرعباً, عصيّاً على الزيارة خاصة من أولئك الذين يبدو عليهم مظهر التدين أو الالتزام الاسلامي, والان تفتح أبوابها مشرعة أمام أحرار العرب, ليروا تلك القطعة الجميلة من المغرب العربي التي تزهو بالخضرة والجمال والحرية والانطلاق نحو عصرٍ جديد, وقد غمرتني مشاعر الفرح والعزّة التي تختلط فيها الاحلام والذكريات, في شارع بورقيبة على مقربة من وزارة الداخلية, وقد خرج الشعب التونسي كله عن بكرة أبيه, بكل اتجاهاته ومكوناته, الرسمية والشعبية, للاحتفال باستنشاق نسائم الحرية والعزة والكرامة, بمناسبة مرور عام على نجاح الثورة الشعبية التونسية المظفرة.
تونس تمثل المعجزة العربية الحقيقية بإرادة الله الواحد القهار الذي يقول في كتابه العزيز: }قل اللهمّ مالك الملك تؤتي الملك من تشاء وتنزع الملك ممّن تشاء, وتعز من تشاء وتذل من تشاء, بيدك الخير, إنّك على كلّ شيءٍ قدير{, فقد كانت تونس مأوى وزراء الداخلية العرب والاجهزة الامنية العربية للمرحلة السابقة, وكان زيد العابدين يشرف على إدارة هذا التجمّع السنويّ المنظم من أجل المدارسة في كيفية محاربة القوى الاسلامية, وإفشال محاولة النهوض العربي, وإفشال الجهود المبذولة لإعادة الحرية والديمقراطية, وكانت تونس تمثل النموذج الناجح الذي استطاع بنظر الغرب أن يفرض العلمانية الليبرالية العربية, واستطاع محاربة (الارهاب الاسلامي), كما استطاع أن يفرض الامن بالقوة والعصا القمعية, مع تحقيق معدلات عالية من النموّ.
كانت إرادة الله أن تكون من تونس البداية, ليكون الدرس واضحاً جليّاً, بليغاً صريحاً لكلّ ذي عقل وبصيرة, لم تستغرق الثورة التونسية الا شهراً, عندما خرج الشباب والشيّاب والنساء والمجتمع كلّه, ليقول كلمةً واحدة تردد صداها في أصقاع الارض كلها وكل مياه البحر المتوسط, ويتردد صداها في كلّ الافاق العربية والعالمية ((الشعب يريد إسقاط النظام)), فلم تعد العبارة الشعب يستجدي, الشعب يرجو, الشعب يتسوّل على أبواب الطغاة, بل الشعب يريد, وإذا الشعب أراد الحياة, فلا بدّ أن يستجيب القدر, وقد استجاب فعلاً.
كنت أسير في شارع بورقيبة المزدحم الذي لا نجد فيه موطئ قدم, وتخيلت قبل عام عندما كان خالياً بسبب قرار (منع التجول), وقد خرج المحامي التونسي بغير وعيٍ يصرخ بأعلى صوته: (يا توانسة, يا شعب تونس العظيم, زين العابدين هرب, زين العابدين هرب...).
خلال عامٍ فقط, يسقط طاغية ونظام, وتسدل الستارة على مرحلة تاريخية, لتبدأ مرحلة تاريخية جديدة كليّاً, تمّ إجراء انتخابات حقيقية لأول مرة في تاريخ العرب, وينتخب الشعب بحرية مجلسه التأسيسي, الذي يريد أن يصيغ الدستور والتشريعات لتنظيم مرحلة جديدة, لجمهورية تونس الديمقراطية الحديثة, ويشاء الله أن يفوز حزب النهضة الاسلامي بالاغلبية النسبية, هذا الحزب الذي كان مطارداً يمنع عليه العمل السياسي, وكانت السجون تحوي (30) ألفا من أعضائه, غير أولئك الذين قضوا تحت التعذيب, وخرجت أرواحهم إلى بارئها تشكو ظلم الطغاة وجبروت الظلام!.
وكم كانت المفاجأة, عندما يصبح (حمّادي الجبالي) أمين عام حزب النهضة رئيساً للوزراء, ويصبح (علي العريض) صاحب أطول مدة تقضى في سجون تونس وزيراً للداخلية, وقد لبس ثياب الاعدام مرتين لمدة تزيد على شهرين, كان ينتظر صدور حكم الاعدام في صبيحة كل يوم, ها هو الان يأتي الوزارة التي تضم في مبناها أقبية التعذيب, وزنازين الاحرار في طوابقها السفلية, ويصبح مطاردو لندن في سدة الحكم ويرثون قصر قرطاج العظيم.
لقد نجحت الثورة التونسية في تشكيل حكومة ائتلافية من مختلف القوى السياسية, وتمّ توزيع المناصب الرئيسية بين القوى الرئيسية في الائتلاف, لأول مرة في تجربة عربية فريدة جديدة, تؤسس لحياة حزبية عربية حقيقية, تقوم على معنى المشاركة والاعتراف بالاخر, والتعاون على المبادئ الكبيرة التي تحقق المصلحة التونسية العليا, وتحقق الامن والاستقرار, والحريّة والديمقراطية, لكلّ الشعب التونسي بكلّ مكوناته وبكل اتجاهاته الفكرية والسياسية بلا استثناء أو إقصاء أو استئثار.
أنصح كل الكتّاب العرب, وكلّ السياسيين والحزبيين, وكل الفعاليات الشبابية والنسائية أن يزوروا تونس الجديدة, ويشاهدوا ضحكات زهور الارض, ومناغاة أمواج المتوسط التي تداعب الشاطئ بحبور, وغناء القمر الذي يراقص أشجار النخيل الباسقة المرحة, ويحاوروا الشباب والمارّة وسائقي التاكسي بأنفسهم بلا رقيب ولا تكلف, ليعاينوا المعجزة التونسية عن كثب.(العرب اليوم )