عمليات جراحية بالسيف

- من السهل على أي مبتدىء من الهواة تلفيق مقالة أو حتى كتاب عن مضيق هرمز أو قناة السويس أو أزمة خليج الخنازير الكوبية قبل نصف قرن، لأن توليد الكلام من الكلام ليس عسيراً في زمن لم يعد المطلوب فيه الكشف عن المستور او افتضاح المسكوت عنه اقليمياً ودولياً، ولأن الصحافة كما الفضائيات بحاجة الى ما يملأ الفراغات يومياً بل على مدار الساعة فان التأمل أو الاستعصاء لم يعودا شرطين لأية معالجة آنية.
فالمسألة أقرب الى ما يسمى في عالم الاستهلاك الديسبوزبل، أو الاستخدام لمرة واحدة فقط رغم ان هناك كتابات عمرها ما يقارب القرن تستحق العودة إليها لما امتلكته من قدرة على الحدس والاستشراف.
ليس من باب النبوءات والتوقعات بل من بوابة أوسع وأعلى هي الاستقراء وربط المقدمات بالنتائج وبالتالي توظيف القرائن لترجيح موقف على آخر.
ان كثيرا من القضايا بحاجة الآن الى فك اشتباك لأن طرحها بالجملة وكأنها محيط لمركز دائرة واحد لا ينتهي الى التعميم فقط، بل يصل حد التعويم والتعمية، وان كنا نعترف بأن هناك سياقاً أو نسيجاً بنيوياً للاحداث المتزامنة، الا ان لكل حدث حيثياته.
لكن يبدو ان ثقافة وادبيات الفيس بوك فاضت عن مساحة الجهاز السحري الذي تحول الى ذاكرة بديلة على حساب الخيال وبدأت تتحول الى مناخ مبثوث في كل التفاصيل.
وقبل عقود رغم ان الصحافة كانت ما تزال شبه بدائية من ناحية التقنية، كان هناك محللون ومعلقون متخصصون في شؤون العالم وشجون شعوبه، فمن يعرف أدق التفاصيل عن امريكا اللاتينية وحراكها وجنرالاتها ومافياتها كانت تناط به مهمة التعليق على حدث مباغت في تلك القارة الساخنة دون حاجة الى تسول المعلومات أو ما تيسر من الارشيف ثم طبخ التعليق على عجل.
وكذلك كان الشأن الافريقي والآسيوي، لكن التقدم الهائل في تقنية الإعلام ووسائله اقترن بسلبية مهنية، بحيث أصبح هناك معلقون على كل ما يجري على سطح كوكبنا، كما أن هناك نقاداً يكتبون عن الفنون بأنواعها والفلسفة والأدب وعلم النفس اذا تطلب الأمر، وكان اوسكار وايلد قد رصف هؤلاء بأنهم يشبهون المحصل للنقود في قطار أو حافلة فهو يبدي الحماس ذاته ازاء كل فئات العملة.. وهناك سؤال مؤجل، لكن لا سبيل الى مواصلة تأجيله هو ما الذي تبقى من كتابات مطبوخة أو مسلوقة على عجل حول حروب الخليج الثلاث! أو حتى قبل ذلك بكثير عن حرب اكتوبر وحرب حزيران والعدوان على مصر عام 1956.
الاجابة عن هذا السؤال قد تكون محرجة، لأن معظم ما كتب في تلك المناسبات لم يتجرأ من كتبوه على اعادة نشره في كتاب كما يحدث في العالم، بل يتمنون لو أنه يبقى طيّ النسيان الى الابد لأنه يفتضح تناقضات جذرية في الرؤى والمقاربات والتوقعات.
في الماضي كان حلاق القرية يقوم بمهمات مستشفى بكامله، يخلع الأضراس ويضمد الجراح حتى لو كانت غائرة الى العظم، وقد يجري عمليات جراحية بلا تخدير..
وضحايا ذلك المستشفى البدائي منهم احياء يحملون الاعاقات في ملامحهم، لكن بعد ان تقدم الطب واصبح فيه اخصائيون لكل اعضاء الجسم البشري انتقلت مهنة حلاق القرية الى السياسة، فأحياناً يكتب من لا دراية له بأي شأن عسكري كما لو كان جنرالاً متقاعداً خاض عدة حروب وقد يكتب نقداً عن مسرحية أو رواية أو فيلم سينمائي من لا يعرف عن هذه الفنون غير ما سمعه في مقهى أو ممر في صحيفة.
أليست مفارقة ان يؤدي التقدم التكنولوجي في الآلات الى تقهقر في الانسانيات؟ لكن عصراً ينحاز بقوة الى كل ما هو شكلي وصالح للعرض فقط، لا بد انه كان المجال الفسيح لكل أنماط التلفيق وتوليد الكلام من الكلام بدلاً من توليد الأفكار!(الدستور)