عُزْلة وِقائية!!

- كنت في القاهرة عندما التقى الرئيس السابق مبارك عددا من المثقفين والادباء، ثم تكرر اللقاء مع عدد من أبرز الفنانين، وأذكر أن بعض المثقفين ومنهم شخصيات معروفة في النطاق العربي كانوا منزعجين لاستبعادهم من اللقاء، وقال لي أحدهم ان هناك بالضرورة من وشى به كي لا يكون مشاركاً، وفي تلك الآونة لم أكن على صلة بكل ما له علاقة بوزارتي الاعلام والثقافة، وقد لا أعرف بالضبط موقع الوزارتين، لادراكي بأن الثقافة بالتحديد لها مكان آخر وكذلك الاعلام عندما يكون حراً وغير مرتهن لنظام أو حزب أو مال.
وقد دُهشت قبل ايام عندما سمعت عبر احدى الشاشات ممن أزعجهم الاستبعاد من لقاء مبارك المتلفز نقداً لاذعا لزملائهم الذين حضروا اللقاء.
لكن سرعان ما تبددت الدهشة عندما تذكرت عشرات وربما الآلاف من هذه المواقف التي أفرزتها الشيزوفينيا العربية سياسياً وثقافياً واجتماعياً، ورغم انني لست معنياً من قريب او بعيد بذلك اللقاء الا أنني كمراقب أحسست بأن المثقف العربي المنوط به التنوير والتثوير والتغيير هو بحاجة الى من يقدم له هذه الاغاثات، وكما رأينا من قبل في العراق، فان غلاة نقد النظام السابق كانوا من أكثر الناس استفادة منه، وتسبيحاً بحمده، وللمثال فقط، عاتبني مثقف بلهجة لا تخلو من تهديد لأنني لا أكتب عن الحرب العراقية - الايرانية خلال سنوات اندلاعها، بعد ذلك بأعوام عاد الوعي بشكل مفاجىء الى هذا المثقف كما عاد ذات يوم الى توفيق الحكيم بعد رحيل عبدالناصر، وقال بالحرف الواحد ان تلك الحرب خاضها النظام العراقي نيابة عن اسرائيل وبتوكيل رسمي مدفوع الأجر من واشنطن، ولم يكن هذا المثقف في العشرين أو حتى الخمسين من العمر لنقول انه بلغ رشده المعرفي والسياسي بعد ذلك، فغير موقفه كما فعل مثقفون من طراز جورج لوكاتش أو هيجل الى حد ما.
كل ما في الامر هو ان الفم استدار الى بئر اخرى وعلف آخر.
وقد لا أجرؤ على تذكير ذلك المثقف الذي كان منزعجاً بسبب استبعاده من لقاء مبارك بموقفه وما سمعته منه، لأنه قد يقود مظاهرة ضدي، لأن المطلوب بالنسبة لهذا النمط من المثقف الحرباء هو ان يصاب الناس جميعاً بوباء الزهايمر، وان تغسل ذاكرتهم "بدراي كلين" سياسي واعلامي كي يُشطب التاريخ كله ليبدأ تاريخ آخر البارحة أو هذا اليوم.
ان النماذج التي ارتطمت بها أو "تكعبلت" بها باللهجة المصرية في اكثر من عاصمة عربية لظروف قاهرة ذات صلة بمهنتي دفعتني الى الشك في جذور تشكل ثقافتنا!
فلم تكن العزلة هروباً بقدر ما هي وقاية صحية من الوباء.
فكيف نصدق ان من قال عن صدام حسين بأنه اهم زعيم ظهر في تاريخ العرب والمسلمين وان وزير اعلامه أهم وزير في الكرة الارضية هو نفسه الذي تسول من كل الاطراف ثمن ما ادعى انه موقفه المضاد لذلك الرئيس ونظامه.
أليس مثيراً للتأمل على الاقل ان يكون هؤلاء مع الله وقيصر في اللحظة ذاتها، وان يبتكروا لأنفسهم ماضياً مسروقاً من الآخرين!
ومن أدمن المديح والتكسب حتى حولهما الى نمط انتاج ثقافي على غرار ما سماه ماركس نمط الانتاج الآسيوي لا مانع لديه ان يتعامل حتى مع الثورة باعتبارها ممدوحاً بديلاً، فالخطيئة لها اسماء عديدة، ويبعث حياً بكامل لسانه وكيسه الفارغ في كل الاجيال..
ومن قال في بني عبد المدان أقذع الهجاء عاد ليقول انهم اصحاب البيان وذوو الالباب وسادة الفرسان مقابل الف درهم فقط!!(الدستور)