المناضلون..اذ يرحلون!
غيب الموت في العاصمة الأردنية عمان في السادس والعشرين من الشهر الماضي المفكر القومي الفلسطيني الكبير بهجت أبو غربية، أحد أعلام الكفاح الوطني والقومي والذي يعتبر وبحق شيخ المجاهدين الفلسطينيين والعرب.. ولقد بقي الراحل حتى ساعة وفاته مسكونا ومشغولا بقضايا الأمة وحريتها ووحدتها وعلى رأسها القضية الفلسطينية. شارك المناضل القومي الراحل بهجت ابو غربية في كل الثورات الفلسطينية منذ اندلاعها في ثلاثينيات القرن الماضي مرورا بالمقاومة الفلسطينية وحركة الجهاد المقدس اواخر الاربعينيات وانتهاء بالثورة الفلسطينية المعاصرة, حيث شارك بدور أساسي في تأسيس منظمة التحرير الفلسطينية مع الرئيس أحمد الشقيري، كما شارك بدور أساسي أيضا في تأسيس جيش التحرير الفلسطيني وقوات التحرير الشعبية، كان ثائرا ومناضلا، ومن أوائل أبناء فلسطين المجاهدين الذين هبوا للدفاع عنها وعن حرمات شعبها من أجل أن ينبعث فجر الحرية في ربوعها.
ويعتبر المناضل الراحل من أبرز الشخصيات التي دافعت عن القدس، تعرفه أسوار المدينة وحاراتها العتيقة وابوابها وبيوتها، مناضلا وقائداوطنيا في المعركة ، ليس في قاموسه مكان للاستسلام والمناضل الذي خاض معارك القدس ببسالة منقطعة النظير، ظل على صلابته دوما، كلما تعلق الأمر بفلسطين وهويتها وحريتها، لا بل زادته السنون صلابة، وتمسكا بحقوق شعبها وأمتها فيها. فوقف كالطود الشامخ، ومثل سنديان الجليل في وجه كل دعوة للتراجع أو الاستسلام، ورفض كل تسوية أو مساومة على الحقوق، مقدما درسا للأجيال من مناضل كان القول لديه مقترنا بالعمل, فما تأخر يوما ولا تقاعس عن أداء واجب، أو القيام بمهمة من أجل فلسطين وقضايا الأمة.
بعد نكسة حزيران واحتلال الكيان الصهيوني لمدينة القدس وباقي فلسطين، وسقوط الرهان على النظام العربي الرسمي في تحرير فلسطين، التقت في القدس كوكبة من المناضلين الذين رفضوا الذل والهوان، ولم يقبلوا احتلال عروس عروبتهم، فأخذوا على عاتقهم إيقاد شعلة النضال والمقاومة، فجاءت انطلاقة جبهة النضال الشعبي الفلسطيني في الخامس عشر من شهر تموز مباشرة بعد النكسة من قلب مدينة القدس، وأعلن المؤسسون الأوائل صبحي غوشة وخليل سفيان "أبو الحكم" وسمير غوشة وفايز حمدان وإبراهيم الفتياني ونبيل القبلاني ومعهم شيخ المناضلين بهجت أبو غربية بدء العمل العسكري المقاوم للاحتلال الصهيوني.
لقد كان الراحل احد المؤسسين لحزب البعث العربي الاشتراكي وللحركة الوطنية في فلسطين والاردن وهو عضو في رابطة الكتاب الاردنيين واتحاد الكتاب العرب . لم يجامل ابو سامي الحياة لحظة واحدة, ولم يجامل العمر أيضاً, فبقي طوال سنوات عمره التي تجاوزت التسعين, شامخا, محافظا على قامة لا تقبل الانحناء, وأناقة كانت مجال غيرة عند كل اصدقائه, ووسامة بعينين ملونتين قدحا من جبال الخليل. ولم يجامل شيخ المناضلين في اي موقف, وإن اتسمت مواقفه في لحظات معينة بالحدة, إلا انها كانت البوصلة الحقيقية لكل موقف وطني, وبقي حتى سنوات عمره الاخيرة حارسا للذاكرة الوطنية, وحاميا للمشروع الوطني الفلسطيني, الذي لم يسلخه لحظة عن المشروع الوطني الاردني, لهذا استحق بالأمس وهو محمولا على اكتاف مشيعيه, ان يلف جثمانه بالكوفيتين البيضاء والحمراء, وهو الذي لم يعترف يوما بمخرجات سايسكس بيكو, ولا حتى بشريان نهر الأردن الذي يفصل الضفتين, فكان دائما وفيا للمشروع الوطني العربي, وهو ابن البعث الذي انضم اليه بعد عام واحد من نكبة فلسطين. بهجت ابو غربية , ضمير فلسطيني , ورمز عروبي وقلب اردني , مضى الى ملاقاة رفاق درب ابتعدوا بالشهادة عن خزعبلات التفاوض وشعوذة المصالحات والتسويات , نأى بنفسه عن القطرية ودنس الاقليمية ورجس التفريط منذ ان اشتّم رائحته في القبول بالقرارات الصادرة من غرف الامبريالية ومجلس امنها . رأى الاطماع تتحقق والاحلام تتبخر , فجلس على حواف القلب يرسم عنب الخليل وشهده حبرا على ورق الذاكرة , كي تحفظ الاجيال خارطة فلسطين من بحرها الى نهرها , وكي تبقى العراق نخلة تسند ظهر الامة وياسمينة دمشق عطر العرب الاغلى والاحلى , وزيت زيتون تونس وقودا لمصابيح العرب . كفنه كان كوفيته , بألوان كريات الدم الحمراء والبيضاء , كوفية عودة ابو تايه وهبوب الريح وقدر المجالي وحسين الطراونة وعبد الله التل ومفلح الكايد العبيدات , ونصفها الثاني كوفية عبد القادر الحسيني ورفيق السالمي وجيفارا غزة وجورج حبش وفوزي القاوقجي وشيخ عصيرة الشمالية فرحان السعدي وشهداء الثلاثاء الحمراء .
الراحل بهجت أبو غربية حمل جسده جراح الانجليز والصهاينة وآثارالمعتقلات العربية وحملت روحه خيبة الرجاء في قيادة أوسلو وظل مؤمناً بعروبة فلسطين. لقد رحل بهجت أبو غربية، السنديانة الفلسطينية العتيقة الضاربة جذورها داخل تراب فلسطين من خان يونس إلى القدس وجبال الجليل، والممتدة صوب عكا وحيفا ويافا. لقد عاش بهجت ابو غربية، صادقاً طيب القلب والسريرة، حميد المسيرة والسيرة، لم تجرفه آلاعيب السياسة على حساب المبادىء والقيم، فشمخت به فلسطين مرة ثانية بوفاته. بهجت ابو غربية , يمضي الى قبره وقد كحّل عينيه بجيل الربيع العربي وهو يجندل القمع وانظمته وتجار الأوطان وأحباب المستوطنين وهذا ربما جعله يغمض عينه دون حذر فكانت اغفاءة الختام , فالحلم العربي تخلص من اضغاثه وبات رؤيا لن توقظها شوكة حاسدة. نم يا شيخنا , محروسا بعيون الشهداء ومحمولا على اكتاف الشباب ولاقي ربك راضيا مرضيا بأنك ما فرطت ولا ساومت ولا تدنست ولا قايضت , لك الرحمة ولنا من بعدك ذكرى عطرة , وحسن العزاء لاهلك ومحبيك الكثر واجيال ما زالت تراك فارسا ممشوق القوام والقامة . لم يرض شيخ المناضلين ان يودع الحياة إلا في يوم جمعة, انسجاما مع نسمات الربيع العربي, وجمعه المباركة, التي ايقظت العرب بعد اربعين عاما من السبات الشتوي, ولم يرض الغياب إلا في يوم ماطر, حتى يكون تراب مدينة سحاب بردا وسلاما على روحه. ابو سامي, سنديانة عربية تهوي, بعد أن صمد في حراسة المشروع الوطني طِوال ستة وتسعين عاما, عليك الرحمة وعلينا أيضا وما بَدّلت تبديلا. إن فلسطين والأمة تخسر خسارة كبيرة بغياب الرجل الذي علم أجيالا من أبناء شعبنا وأمتنا معنى الحرية والنضال والثبات على الموقف، ورفض المساومة ولو على شبر من أرض فلسطين والعرب.
تقول احدى الكاتبات:
"بالالاف كنا نبكي ونفتقد انطون سعادة ونقول له ان الوطن لم يخل من تلامذته , من الذين تمثلوا تجربته حتى وان لم يطاولوها,والا لكنا نقول لابي سامي ان نضاله ذهب عبثا, الا انه كان من اولئك القادة الكبار الذين يعرفون ان الأمل لا يعرف المهل الزمنية. من اولئك الذين منهم انطون سعادة القائل: لو انفض عني جميع القوميين الاجتماعيين لدعوت الى النضال اجيالا لم تولد بعد,وعندما وصل صوت دعوته الى سناء محيدلي"عروس الجنوب اللبناني" ادركنا كم كان على حق. وهكذا ستبقى سيرة بهجت ابو غربية دعوة قائمة ونموذجا جاهزا لكل فلسطيني وعربي حر يؤمن بالوحدة والقومية العربية".
لقد كان مثلا للوطنية الصادقة وعنوانا للنضال والجهاد ورمزا للثبات حتى وافته المنية ولسان حاله يقول كما قال خالد بن الوليد: لم يبق في جسمي موضع شبر الا وفيه طعنة من رمح أو ضربة سيف, وكنت اطلب الموت في مظانه وها أنا أموت على فراشي..فلا نامت اعين الجبناء.
اعرف" يا أبا سامي" أنك تغفو الآن غفوتك الأخيرة، ولكني أعرف أيضا أنك ستموت قليلا، لأن سيرتك ثريّة وغامرة، وجهادك كان طويلا، ولتهنأ روحك المتفائلة باسترجاع فلسطين،ولتكن سيرتك النضالية درسا لأهل فلسطين، وللأمة وهي تمضي نحو فلسطين.
أيها المجاهد العنيد نقول لك:والمشرقُ العربيُّ الحزنُ يغمُرُهُ**عليكَ، والمغربُ الأقصى به كَدَرُ..كأنما أمّةٌ في شخصكَ اجتمعتْ**وأنتَ وحدك في صحرائها المطَرُ..كأنّني ألمَحُ الأجيالَ هادِرَةً **وَأنتَ فيها وَلَمْ يُسْعَفِ العُمْرُ..طالَ ارتحالكَ ما عَوَّدْتنا سَفَرا **أبا المساكينِ فارْجَعْ نَحْنُ ننتَظِرُ.
وفي السادس والعشرين من نفس الشهر ولكن قبل أربعة أعوام كان الموت قد غيب أيضا في العاصمة الأردنية الدكتور جورج حبش مؤسس حركة القوميين العرب ومن بعدها الجبهة الشعبية لتحرير فلسطين, والذي قال عنه الراحل القائد ياسر عرفات:"لكل ثورة حكيم وحكيم ثورتنا هو الحكيم".
أيها الحكيم, لو بحثنا في هذا الوطن العربي الممتد من المحيط الى الخليج عمن تخلى عن منصبه طوعا كما فعلت أنت, سواء زعيم دولة أو قائد فصيل أو تنظيم فلن نجد..فهؤلاء زعماء وقادة من المهد الى أللحد, بل وأكثر من ذلك فهم يتبنون سياسة التوريث.
لقد حملت يا حكيمنا المبادىء الشريفة, وعملت كثيرا ولكن بصمت, وكفك كانت طاهرة لم تتلوث أبدا, كان هدفك هو تحرير فلسطين من بحرها الى نهرها, ورفضت العودة اليها محتلة وقلت:لن أعود الا مع اخر لاجىء..رحلت ولم يتحقق الهدف, لكن كن مطمئنا بأن جثمانك سيعود الى مسقط رأسك"اللد" ولو بعد قرون.
سنتذكر دوما نصيحتك ووصيتك الى أبناء شعبك والتي أطلقتها قبل رحيلك:"كلمتي إلى الشعب الفلسطيني في هذه المرحلة أذكرهم بأن الإستعمار بكافة أشكاله سيرحل عن أرضنا , ولنا بالتاريخ عبرة..ولكن الأمر يحتاج أولا إلى الوحدة ثم الوحدة ثم الوحدة..وأن فلسطين هي الهدف الراهن والاستراتيجي, فلا نجعل من خلافاتنا وصراعاتنا على السلطة الوهمية, والتي هي تحت الإحتلال مجالاً لإنتصار الآخر علينا".
لقد كنت الضامن الوحيد للوحدة الوطنية الفلسطينية وصمام أمانها..لقد كنت أشرف حكيم لأشرف وأطهر ثورة عرفها التاريخ, فيا أيها المسيح القائد والمناضل الراحل: قم من بين الأموات وهب الحياة لمن هم أموات ويظنون بأنهم أحياء, قم من بين الأموات وارجم لصوص فلسطين، وبائعيها، وسارقيها, وقتلةََ أحلامها، ومقطّعي أوصالها بين سلطتين خاويتين وعاجزتين, ولا حول لهما ولا قوة, ورغم ذلك قامعتين.
وفي الثامن من نفس الشهر أيضا وقبل أربعة أعوام, غيب الموت في عاصمة فلسطين الأبدية"قدس الأقداس", الرفيق والزميل والمناضل العزيز الدكتور أحمد المسلماني" أبو وسام", عضو اللجنة المركزية العامة للجبهة الشعبية لتحرير فلسطين..نعم قبل أربعة أعوام وفي غفلة من الزمن، وموعد غير متوقع، غادرنا رجل قل نظيره في التضحية والعطاء والكفاح والنضال والوفاء، عرفته كل ساحات العمل الوطني، ومارس كل أشكال وأنواع النضال، وترك بصماته فيها جماهيرياً، سياسياً، كفاحياً، اعتقالياً، مجتمعياً وإنسانياً..رحل الرجل الذي استحق وبامتياز لقب" حكيم القدس وضميرها".
تحية إجلال وإكبار لجميع شهداء قضيتنا العادلة الذين قضوا من أجل تحرير الوطن من بحره إلى نهره..والى كل الشهداء في وطننا العربي الذين قدموا أرواحهم قرباناً في سبيل الحرية والعدالة والمساواة.
تحية إجلال وإكبار إليكم أيها الأبطال فقد نذرتم حياتكم لقضايا شعبكم وأمتكم فرحلتم مرفوعي الرأس، مرتاحي الضمير..في ذكرى فراقكم نقول ما مات من زرع العقيدة وارتحل والثوريون لا يموتون أبدا..ولن ننثني يا سنوات الجمر وإننا حتما لمنتصرون.
-القدس المحتلة