مصر من الحالة الثورية إلى الثورة مستمرة
لم تفلح 6 كاميرات تبث على الهواء مباشرة من خارج القاهرة و من ميدان التحرير و الشوارع المحيطة بوزارة الداخلية المصرية نصبتها إحدى القنوات الفضائية المملوكة لرجل أعمال و متقمص دور سياسى منذ الثورة فى حشد المتظاهرين (إن صحت التسمية) فى ميدان التحرير و محيط وزارة الداخلية. تنضم إليها قناة أخرى إشتهرت بتنبأ مذيعيها فيما يشبه الكهانة بالأحداث قبل وقوعها. و لم يكن هذا كافيا فدخلت على الخط قناة فضائية أخرى يقودها أحد مذيعى التلفزيون المصرى السابقين فى التحريض على التظاهر. وتم حشد الكثير من نخبة الفضائيات للحث على المشاركة فى الأحداث.
لم يفلح هذا التحريض الذى يستغل أحداث بورسعيد فى حث الشباب على التوجه إلى ميدان التحرير و بالتالى إلى محيط وزارة الداخلية لبدء جولة جديدة من القتل و التدمير. و بالتالى لم يكتمل نفس السيناريو الممجوج الذى أنتج نفس الأحداث مرتين قبل ذلك فى أحداث شارعى محمد محمود الأولى و القصر العينى. لأنه فى المرتين إنتهت الفعاليات بتقديم الحل و خيط النجاة للمجلس العسكرى (بحسب تقدير من قدموه) المتمثل فى ورقة صغيرة بها أسماء أعضاء المجلس الرئاسى المؤقت أو رئيس الوزراء أيضا المؤقت و أخيرا رئيس مؤقت يختاره البرلمان بالتوافق.
لماذا فشلت الجهود الحثيثة لحشد الشباب لمحرقة جديدة فى شارع محمد محمود ؟ لقد كانت الأحداث فى إستاد بورسعيد صادمة للرأى العام لدرجة شعور الجميع بالخوف من تداعى الأحداث يضاف إلى ذلك أن خيوط المؤامرة كانت واضحة لدرجة اليقين:
• ضعف نظرية مؤامرة الجيش : لقد كان واضحاً للجميع أن الجيش هو أول المتضررين من هذه الأحداث. وليس من المنطق أن يقوم المجلس العسكرى بتدبير هكذا مؤامرة التى سيكون من أول تداعياتها الإطاحة بالمجلس العسكرى. فنظرية إبحث عن المستفيد تستبعد تورط العسكرى فى تدبير الأحداث
• الثقة فى الأداء البرلمانى : بالرغم من أن البعض كان ينتظر قرارت ثورية من البرلمان أى قرارات إنفعالية إلا أن البرلمان إستخدم الأدوات الدستورية فى حدود صلاحياته و ذهب إلى أعلى سقف ممكن بإستدعاء قانون إتهام الوزراء لتفعيله ضد وزير الداخلية. فجدية البرلمان واضحة فى القيام بدوره الرقابى. صحيح هناك نوع من الإحباط من أداء المجلس حيث توقع الشباب قرارات ثورية و لكن مايجب أن يعلمه الجميع أن الشرعية الأولى لابد أن تلتزم الأدوات الشرعية و ألا تعتدى على صلاحيات الحكومة أو المجلس العسكرى ليكونوا مثالا يحتذى.
• رفض إراقة الدماء : أصبح فى حكم اليقين من الخبرات المتراكمة من المواجهات السابقة فى ميدان التحرير أن هناك متظاهرين و عناصر فى الشرطة (بغض النظر عمن ورائهما) تؤجج الأحداث و تسعى للدفع بالمواجهات إلى مداها الأقصى لعلها تستفيد من الأحداث
• موقف معظم الشباب الثورى و خصوصا الإخوانى : لم يلتزم الشباب الإسلامى و أخص منهم شباب الإخوان بقرار الجماعة بعدم المشاركة فى فعاليات الإحتجاجات على أحداث شارع محمد محمود الأولى وشاركوا بقوة و لكن كأفراد فصدموا بعدد الضحايا و الأجندة التى طرحت بإسمهم. ثم قلت حدة الخروج على قرارات الجماعة فى أحداث شارع القصر العينى لتخوفهم من مآلها للأحداث الأولى وقد كان و سقط العديد من الضحايا و خرجت الأجندة إياها. ثم جاءت ثالثة الأسافى و قاصمة الظهر وهى أحداث الذكرى الأولى للثورة ثم أحداث الحائط البشرى عند مجلس الشعب فقد رأى الشباب الإسلامى حجم العداء و عدم الترحيب بجماعتهم الأم فى الميدان . لتدفع شباب الجماعة إلى أقصى درجات الإلتزام فلم يساهموا بأى وجود يذكر فى أحداث بورسعيد اللهم إلا من باب الفضول. فلقد تيقن الشباب الإسلامى و غيره من الثوريين الشرفاء أنه يتم إستغلال حشودهم فى أجندات خاصة. وعليه فقد إفتقدت فعاليات الإحتجاج على أحداث بورسعيد الدعم الأكبر.
• إلتزام قوات الداخلية بأقصى درجات ضبط النفس : رغم إيماننا بعدم جدوى إصلاح الشرطة من الداخل و لكن لايسعنا إلا الإعتراف بالحق. فقد وضح إلتزام قوات الأمن المسؤولة عن حماية وزارة الداخلية بأقصى درجات ضبط النفس و لم يتعد دفعها للمتظاهرين إلا بإستخدام الغاز. ولكن يجب أن نعى الحقيقة أن فى داخل قوات الأمن من يؤجج هذه الأحداث و لا نستبعد قيام بعض العناصر بإطلاق الرصاص أو الخرطوش من الجهتين لتأجيج الصراع.
نتائج فشل الحشد لمحرقة محمد محمود الجديدة : إن مردود عزوف الشباب الثورى الشريف عن المشاركة فى أحداث النسخة الثانية فى شارع محمد محمود عظيما. حيث تضع حدا فاصلا بطوى صفحة و يبدأ صفحة جديدة من ملحمة الثورة المجيدة .
الإنتقال من فعاليات "الحالة الثورية" إلى مرحلة "الثورة مستمرة" :
"الحالة الثورية " من الميدان : مرت "الحالة الثورية" بعدة مراحل و منعطفات هامة تراوحت فعالياتها من الصمود فى وجه النظام السابق و أجهزته الأمنية ثم الإنتقال إلى مرحلة التوافق التام مع المجلس العسكرى و حكومة شرف ثم ساءت العلاقات بين المجلس العسكرى و القوى الثورية و لكل جماعة أسبابها. لكن هناك إجماع بين القوى السياسية أن النتيجة الممتازة التى خرجنا بها هو الإنجاز العظيم المتمثل فى البرلمان. ومن مساوئ هذه المرحلة كثرة الإضطرابات و الصدامات الدامية و التشكيك و الإعتصامات و المليونيات. و إنعكس ذلك بالسلب على الملفين الأعظم ألا و هما الأمن و الإقتصاد.
"الثورة مستمرة" من خلال المؤسسات المنتخبة : نستطيع أن نسجل تاريخ 23 يناير يوم إنعقاد البرلمان كبداية للإنتقال بين الحالتين و لكن أحداث بورسعيد ستسجل كتأكيد على بداية مرحلة الثورة مستمرة و قيام البرلمان بتحويل الهتافات و الشعارات إلى أفعال فى أرض الواقع. وهذه بداية مرحلة إستقرار الحاضر و بناء المستقبل و هدم الماضى. وقد بدأت هذه المرحلة بداية قوية و فتح البرلمان ملف الشهداء و أحرج الحكومة و المجلس العسكرى أيما إحراج و دفعها إلى إجراءات سريعة ناجزة. ثم فوجئ الجميع بأحداث بورسعيد فكشر البرلمان عن أنيابه و إستغل أعلى سقف تشريعى و رقابى للبرلمان و مضى فى إجراءات توجيه الإتهام لوزير الداخلية الأمر الذى شكل صدمة للحكومة و جميع الوزراء وسيكون له نتائج باهرة حتى على المدى القصير.
إنتقال الشرعية الثورية من ميدان التحرير إلى البرلمان : إذا إتفقنا على فشل الحشد لمحرقة جديدة فلابد أن نتفق كنتيجة لذلك على إزدياد الشرعية الثورية للبرلمان على حساب ميدان التحرير. و من الناحية العاطفية قد يبدو ظاهر الكلام صادما لشباب الثورة المخلص و لكنى أقول أن هذا هو المسار الطبيعى للثورات بالإنتقال إلى مرحلة البناء . و هذا الإنتقال لا يلغى تاريخ ميدان التحرير و لا ينهى دوره فى المستقبل ولكنه تسليم للراية لإستكمال المشوار.
من ميدان "الشعب يريد" من المجلس العسكرى إلى "مجلس الشعب يأمر" المجلس العسكرى و أجهزة الدولة : من غير الممكن أن يستمر ميدان التحرير هو المصدر الوحيد "للشعب يريد" و فلابد من أن نتحول إلى "مجلس الشعب يأمر" لإنجاز مطالب الثورة. فالميدان ليس لديه إمكانية سن القوانين أو مساءلة الوزراء و لا نستطيع أن نعرف من خلاله على وجه الدقة من مع أو من ضد موقف معين. ولا من يمثل من أو له الحق أن يتحدث بإسم من. و لكن البرلمان له صلاحيات و معروف من يمثل من و فى النهاية يتم التصويت بدقة على من مع أو من ضد.
وبناءا عليه (بلغة رئيس البرلمان) على الشباب الثورى و القوى السياسية دعم البرلمان و الإلتفاف حوله و حمايته. وعلى البرلمان نشر الوعى السياسى و القانونى لتوضيح مسار المناقشات و زرع مبدأ إحترام القانون و الدستور. وعليه أيضا أن يستمر فى أداءه الراقى بإستعمال الأدوات الشرعية لإنجاز مطالب الثورة. و على الجميع الحفاظ على "إستمرارية الثورة" وحيويتها حتى إنجاز المطالب الشعبية و الإلتفات إلى مرحلة البناء.
كاتب مصرى