«كُتّاب خدمات»

المدينة نيوز - لدينا في الأردن «وزراء خدمات»، مهمتهم التي فوّضوا للقيام بها من قبل الشعب وممثليهم، أو الدولة ممثلة برأس السلطات فيها، أو من كلا الفريقين معاً، هي تقديم الخدمة للمواطنين أفراداً وجماعات، بعدالة ونزاهة، ووفقاً لأحسن المعايير المشروطة بـ»مقتضيات الحال»...هذه ليست حالة أردنية خاصة، هذا هو ديدن الحكومات في أربع أرجاء الأرض، ومن أجلها عُيّنت أو أنتخبت.
وانتهينا خلال السنوات العشرين الفائتة، إلى إفشاء ظاهرة «نواب خدمات»، الذين جاء بهم قانون الصوت الواحد، من خارج السياسة ورحم الأحزاب، إذ حملتهم عشائرهم وحمائلهم وحاراتهم للجلوس تحت قبة البرلمان، فكانوا مدينين لها بكل ما «أنعم الله عليهم»، واستحقت من باب «رد الفضل لأصحابه»، أن تحظى برعاية سعادة النائب الكريم في التوظيف والمناقلات والخدمات وبعثات الحج، وأحياناً بعض المغلفات غير المنتفخة بما فيها من دراهم معدودات ؟!.
في السنوات الأخيرة، انتشرت في زوايا وأعمدة الصحف اليومية ظاهرة جديدة يمكن أن نطلق عليها اسماً يليق بها، وأعني بها ظاهرة «كُتّاب خدمات»...ولا أعني هنا الخدمات «مدفوعة الأجر» لجهات رسمية أو غير رسمية، بيزنيس وأجهزة وحكومات ومتنفذين، فهذه متروكٌ أمرها للجان التحقيق والنيابة العامة، بل أعني في هذه المقالة حصراً، الخدمات المقدمة لمواطنين أفراداً، تعرض مشاكلهم في متون الزوايا والأعمدة.
كاتبٌ يقع على مشكلة على قارعة الطريق، أو تأتيه شكوى من مواطن أو مواطنة، أو يتلقى طلباً من صديق لـ»التوسط» بطريقته، أي عبر إثارة المسألة على صفحات الجريدة، فيقوم بطرح القضية، ويتوجه للمسؤولين أو «أصحاب القلوب الكبيرة»، وينتهي الأمر في عديد من الحالات إلى الاستجابة للمَظلُمة...فيسارع زميلنا صبيحة اليوم التالي إلى كتابة مدونة في الثناء والمديح للجهات المختصة على استجابتها الفورية لنداء المواطن (x)....وتأخذ المسألة بعداً درامياً، إن كان المسؤول على سفر، وتجشم عناء إجراء مكالمة هاتفية للاطمئنان على سير القضية وسرعة التنفيذ.
طبعاً، نحن لا نعترض على تناول «حالات فردية» للولوج لمناقشة سياسة عامة، كأن تؤخذ قضية مواطن سُحب جواز سفره بغير حق، للنفاذ إلى قضية «سحب الجنسيات» بما هي قضية عامة، أو أن تؤخذ قضية طالب مظلوم في القبول أو الابتعاث لتناول سياسات القبول والابتعاث للجامعيين، لكن ما نحن بصدده، هو جنوح بعض الزملاء لتحويل زواياهم، إلى ما يشبه برامج (البث المباشر) و(صباح الخير يا وطني) الدارجة في الأردن وكثيرٍ من دول المنطقة...وتصبح ظاهرة مدعاة للقلق حين تندرج هذه الظاهرة في سياق «التلميع» و»التعويم» أو «الإبتزاز» «والتكسب» أو حتى «تصفية الحسابات»...حينها يكون الاختراق والتعدي قد تخطا الجنحة وطاولا ضفاف الجريمة.
ومع تفشي هذه الظاهرة بتنا، شأننا شأن «نواب الخدمات» و»وجهاء العشائر والمخيمات»، مع الاحترام والتقدير لكل النواب والوجهاء، عُرضة لسيل لا ينقطع، من المطالبات والمطالبين، والمَظلُمات والمظلومين...ولو أن الواحد منا قرر الاستجابة لكل مطلبٍ ومَظلمة، لقضينا جُلّ أوقاتنا نتنقّل من وزارة إلى أخرى ومن دائرة إلى دائرة.
الكتابة اليومية، ليست عملاً سهلاً...ليس من اليسير أن تجد جديداً تقوله يومياً...هي عبء على الكاتب أولاً، وإلا صارت عبئاً على القارئ صبيحة اليوم التالي...بعض الزملاء يواجهون أمراً كهذا، فتراهم يهربون تارةً إلى مقالات «الخدمات»،
وطوراً إلى عموميات لا تسمن أو تغني من جوع...فهذا ينتظر «امتحانات التوجيهي ونتائجه» ليعيد نشر ما كتبه في ذات المناسبة من كل عام، من دون أن يغفل عن التحذير من مخاطر «المواكب السيّارة» و»إطلاق الأعيرة النارية»، وذاك يجأر بالشكوى من تفاقم «الازدحامات المرورية»، وثالث يرفع عقيرته مندداً بـ»مؤامرة التوطين»، وهو موضوع من لا موضوع عنده هذه الأيام، ولا بأس أن يطلع عليك خامس بقصيدة غنائية عن «نعمة الأمن والأمان» التي نعيشها في الأردن، لكأن تسعين بالمائة من دول العالم المائتين، يُقتّلُ فيها الناس بعضهم بعضا ؟!.
ننسى في حمأة الاضطرار اليومي للبحث عن مواضيع جديدة نقدمها لقارئ لا يرحم، أن للكتابة وظيفة تنويرية عامة....تطال السياسة والسياسات...وأننا لسنا «مكاتب علاقات عامة»، أو «مؤسسات خدمية فردية»...ننسى أننا لسنا «وجهاء» وظيفتهم القيام بـ»الوساطة والواسطة» بين المواطن والمسؤول...ننسى أن من يسديك خدمة اليوم، لك شخصياً أو «لكل من جاء من طرفك»، ينتظر منك مقابلاً غداً...ننسى أننا بذلك نمهد عن وعي أو من دونه، لتوسيع مفاعيل ظاهرة «الاحتواء الناعم» التي كنّا أول من تحدث عنها، وبلغة الأرقام والإحصاءات والنسب المئوية...ننسى صلب وظيفتنا ورسالتنا التنويرية والرقابية العامة...ننسى أننا كتاب وصحفيون ومحللون، لا نواب ولا وزراء خدمات، والمؤكد أننا لسنا وجهاء عشائر ومخيمات لنقوم بأدوارهم نيابة عنهم، أو لنزاحمهم عليها.
(الدستور)