الفقيه العسكري!!

المدينة نيوز - المواقف الفكرية التي لا تستجيب على الفور للطارئ السياسي قبل الإحاطة به لا تقبل الاختزال لأنه أولا مخلٌّ بها، ويتيح الانتقاء فالحذف احيانا اخطر من الاضافة، واسوأ سؤال نواجه به هو هل انت مع او ضد هذا المثقف او تلك النظرية؟ لان هناك مواقف اشكالية تصدر عن شخصيات عامة هي ايضا اشكالية، اي لا تخضع للثنائيات الحاسمة بحيث ينقسم التاريخ الى نار وثلج ولا شيء اخر، واراء الشاعر والمفكر ادونيس التي نشرت مؤخرا سواء في الصحف او على الفضائيات ليست وليدة اللحظة، فالرجل يكتب ويعترض ويشتبك منذ اكثر من نصف قرن وكأن له من الخصوم ضعف الاصدقاء على الاقل، وهذا امر طبيعي ومتوقع من مثقف اختار بفضل وعي مفارق مقاربات غير تقليدية سواء في الشعر او الفكر، واول مقاربة فكرية مختلفة قدمها ادونيس خارج الشعر هي مختاراته من الشعر العربي عبر مختلف الازمنة، فقد اوضحت ان ما هو شائع ومتداول على انه الافضل او الاكمل لم يكن معياره في الانتقاء والترك. ففاجأ قارئه باسماء شعراء عرب مجهولين او شبه مجهولين، لكنهم على اهمية جمالية وانسانية كبرى، ثم جاءت اطروحته الشهيرة باسم الثابت والمتحول لتثير سجالا واسعا، وقد تعرض من بعض الاوساط والتيارات الايديولوجية الى تجريم بطريقة لا تقل عما تعرض له طه حسين عندما اصدر كتابه في الشعر الجاهلي لكن ما تغير الى حد ما هو الزمن، رغم ان محاكم التفتيش قدر تعلقها بالثقافة تبدل الكثير من الاقنعة والاساليب، وعلى من يقترف اجتهادا او رؤية مضادة للسائد ان يدفع الثمن فورا او بعد حين، تماما كما حدث لصادق جلال العظم الذي عوقب على فصل من احد كتبه عند صدور الكتاب لكنه كان قد نشره في مجلة بيروتية قبل اعوام من نشر الكتاب لان هناك على ما يبدو كتبا ومقالات لا تقرأ الا اذا قرعت حولها الاجراس.
ما يقال عن ادونيس في مختلف المناسبات المتعلقة بالحراك الشعبي انه انحاز الى الثورة في ايران لمجرد اندلاعها، وكتب قصيدة عنها، رغم ان اطروحاته تلح على الدولة المدنية، والاجابة المتكررة لدى ادونيس هي انه غيّر رأيه لمجرد عسكرة وادلجة الثورة، واصبح هناك فقيه عسكري.. والفقه العسكري لا يلغي فقط اهداف الحراك في المدى الابعد. فهو يحول دون وصول اي حراك الى لحظة تكون فيها المشاركة وتداول السلطة بديلا للاحتكار وفقه الاقصاء، فالفقه العسكري اقصائي بالضرورة لانه يتأسس على مقولة معروفة هي نفذ ثم ناقش وليس العكس. ما كتبه ادونيس من ايران كان قبل ثلاثة وثلاثين عاما، ولو عدنا الى اهم المفكرين على الاقل في التاريخ المعاصر لوجدنا ان هناك تقليدا اكاديميا وفكريا يصنف اعمالهم تبعا لمراحل التطور. لهذا يقال ان اعمالا محددة هي من انجازه هيجل الشاب او ان نصوصا لماركس تنتمي الى مرحلة ماركس الشاب. والمثال الادق لهذا جورج لوكاتش الذي اعاد النظر في الكثير من كتاباته ومنها ما كان قد كتبه عن الهند والشاعر طاغور.
ان المصطلح الذي استخدمه ادونيس وهو "الفقيه العسكري" يصلح وحده مدخلا لتجارب عديدة في عالمنا، ومن يدري قد يكون الوطن العربي مرشحا للمرور في هذه الحقبة من الفقه العسكري ايضا. ما نتمناه هو عدم فرض الإقامة الجبرية على المواقف داخل العقول. رغم احترازنا من الفارق الجوهري بين نقد الذات وتغيير الجلد، ولا يصح باية حال ان تختزل اعمار من الثقافة في جملة هنا او هناك كما حدث مؤخرا مع اثنين على الاقل هما ادونيس وسلمى الجيوسي!
(الدستور)