نتنياهو في ختام عامه الثالث
تم نشره الأحد 25 آذار / مارس 2012 04:29 مساءً

* عمل بنيامين نتنياهو بنشاط من أجل إفشال محاولة ليفني تشكيل الحكومة وساعده في ذلك إيهود باراك الذي فضل أن يكون الرجل الثاني ورفض أن يكون شريكا لليفني وفق تقييمه للدور المستقبلي لحزب كاديما
* رتب نتنياهو أوضاع الائتلاف الحكومي وفق إجراءات جوهرية تمكنه من خوض المناورات السياسية على جبهات عدة، متسلحا بائتلاف حكومي «منسجم» ومتين
* عوامل عدة ساعدت على نجاح مناورات نتنياهو بشأن المفاوضات، وفي المقدمة مكونات الرباعية الدولية التي كانت تصدر بياناتها ودعواتها للمفاوضات على إيقاع الموقف الأميركي
* بعد قبول الجانب الفلسطيني المشاركة في المفاوضات غير المباشرة، أطلق نتنياهو ما في جعبته من مناورات بدأت باللامبالاة أمام مطالب المفاوض الفلسطيني بضرورة تلقي الرد على اقتراحاته بشأن الحدود
* «تجرأ» المفاوض الفلسطيني على مغادرة قاعة التفاوض المباشر مع استفحال الاستيطان لكنه لم يغادر عملية التسوية بشروطها الراهنة وبقي يراهن على موقف ما من قبل الرباعية
مع انتهاء الشهر الحالي، تكون حكومة نتنياهو (الثانية) قد أتمت عامها الثالث في الحكم. وتقول المعطيات بأن هذه الحكومة ماضية نحو إكمال ولايتها القانونية إلا إذا وقع ما هو خارج الحسابات الحالية، أو رأى نتنياهو ضرورة إجراء انتخابات مبكرة استثمارا لمنسوب شعبيته المرتفع، يحسن من خلالها موقع حزبه في الكنيست بما يمكنه من تشكيل ائتلاف حكومي جديد، بشروط أقل كلفة من تلك التي دفعها من أجل تشكيل الائتلاف الحاكم.
ومنذ تنصيب حكومته في الكنيست (31/3/2009) توقع مراقبون ألا تعمر طويلا، وازداد عدد القائلين بهذا الاستخلاص إبان تصاعد التجاذبات بين واشنطن وتل أبيب في آذار/ مارس 2010 بشأن ملف الاستيطان الذي دعت الإدارة الأميركية على لسان رئيسها باراك أوباما إلى تجميده لإنجاح مسعى التسوية السياسية، وترافقت هذه التجاذبات مع دعوات أميركية وإسرائيلية (إيهود باراك)، لـ «تعديل» تشكيل الائتلاف الحكومي بإدخال حزب كاديما ورئيسته تسيبي ليفني على حساب حزب «إسرائيل بيتنا» بزعامة أفيغدور ليبرمان، على أن تتولى ليفني ملف التسوية لإكمال ما بدأته حكومة أولمرت بعيد مؤتمر أنابوليس خريف العام 2007، وخاضت وفقه مفاوضات مع الجانب الفلسطيني قبل أن تقلب طاولة التفاوض بشن عدوان واسع على قطاع غزة أواخر العام 2008.
لكن الائتلاف الحكومي بقي.. والذي انتهى هو التجاذبات مع واشنطن بعد تراجع أوباما وإدارته عن مطلب تجميد الاستيطان وحقق نتنياهو أبرز انتصاراته في ملف التسوية.. لكنه قبل ذلك كان قد حسم معارك داخلية عديدة لصالحه حتى تمكن من تشكيل الحكومة برئاسته على الرغم من حصول «كاديما» المنافس على مقاعد أكثر بنتيجة انتخابات الكنيست.
«عودة» نتنياهو و«آمال» ليفني
كان لدى كل من نتنياهو وليفني ما يأمل أن يحققه على الصعيد السياسي. فالأول أراد أن يبدأ بمحو سجل خسارته الموجعة في انتخابات العام 1999 أمام حزب العمل برئاسة إيهود باراك. وجاءت «عودة» نتنياهو إلى الميدان السياسي بعد أن تدهورت أحوال حزبه الليكود إثر خروج شارون وعدد واسع من قادة الحزب وكوارده، ليشكل حزب كاديما ويفوز برئاسة الحكومة في العام 2001. ووصل الأمر بالليكود إلى درجة أنه لم يحصل سوى على 12 مقعدا في انتخابات العام 2006 التي جدد فيها كاديما فوزه برئاسة إيهود أولمرت.
في مثل هذا الوضع، كان أي إنجاز يقوم به نتنياهو سيظهر جليا، في الوقت الذي كانت بوادر الإنهاك بدأت بالظهور على حزب كاديما، بعد غياب شارون عن الحياة السياسية وضعف أولمرت وافتقاده إلى الحنكة السياسية ثم وقوعه لاحقا في مسلسل من الفضائح المسلكية والقانونية.
بذلك تحرر نتنياهو من «عقدة» شارون الذي نجح على امتداد سنوات في كبح جموحه ولجم دوره وأفشل معارضته لسياساته وخاض في خطة الانسحاب من داخل قطاع غزة. كما وجد نتنياهو نفسه مرتاحا بغياب منافسين جديين داخل الليكود وخارجه.
أما تسيبي ليفني، التي تفتخر بأنها تتلمذت على يد شارون، فإنها رأت في إقصاء إيهود أولمرت فرصتها الذهبية، وهي التي كانت على قناعة بأنها من يستحق أن يخلف شارون بعد غيابه، ولطالما أبدت اعتراضاتها على رئاسة أولمرت للحزب وللحكومة ومحاولاته إقصاء دور وزارة الخارجية ـ التي كانت تتقلد حقيبتها ـ ولم تخف الدبلوماسية الأميركية في حينها برئاسة كوندوليزا رايس قناعتها بضرورة إعطاء دور أكبر لليفني في عملية التسوية مع الجانب الفلسطيني.
وكما هو حال نتنياهو، وجدت تسيبي ليفني نفسها متحررة من عقدة «مسؤولها» بعد إقصائه. ولم ترَ منافسا جديا لها داخل كاديما بعد أن حسمت زعامة الحزب لصالحها. كما رأت ضعف الأحزاب الأخرى في ظل تدهور أوضاع الليكود واضمحلال دور حزب العمل الذي يعاني من انقسامات حادة في صفوفه.
إقصاء «كاديما»
على الرغم من أن حزب كاديما برئاسة ليفني حصل في انتخابات العام 2009 على 28 مقعدا بزيادة مقعد واحد عن «الليكود» برئاسة نتنياهو. إلا أن قراءة النتائج لكل من الحزبين جاءت لمصلحة الأخير الذي حقق قفزة كبيرة في واقع الليكود من 12 مقعدا في الكنيست السابق إلى 27 أي بفارق 15 مقعدا. في حين جاءت نتيجة كاديما متراجعة بمقعد واحد عما كان الحزب قد حققه في الانتخابات السابقة، وهذا مهم على صعيد الوضع الداخلي ومكانة كل من نتنياهو وليفني في داخل حزب كل منهما. وتجلى ذلك لاحقا في إعادة نتنياهو تأكيد زعامته في انتخابات حزبه الداخلية لأكثر من مرة في حين تتعرض ليفني حتى الآن إلى محاولات جدية لإزاحتها.
وعمل بنيامين نتنياهو بنشاط من أجل إفشال محاولة ليفني تشكيل الحكومة وساعده في ذلك إيهود باراك الذي كان «أقصى» حلمه بأن يكون الرجل الثاني في الائتلاف الحاكم مع رجل قوي مثل نتنياهو على حساب أن يكون شريكا لليفني في حكومة قد لا تعمر طويلا وفق تقييمه للدور المستقبلي لحزب كاديما بعد غياب شارون وإقصاء أولمرت. وشكلت التركيبة اليمينية التي وسمت معظم تشكيلة الكنيست، العامل الحاسم الذي أفشل مهمة ليفني ومن ثم إحالة تشكيل الحكومة إلى بنيامين نتنياهو الذي فتح بازار العطاءات الوزارية على مصراعيه أمام الأحزاب الدينية واليمينية المتطرفة لإنجاح مسعاه في تشكيل ائتلاف يحظى بغالبية برلمانية مريحة.. وكان له ذلك بعد أن صوَّت 69 عضو كنيست لصالح الثقة في حكومته المقترحة، بذلك ترأس نتنياهو المشهد السياسي والحزبي الرسمي في إسرائيل وانتقلت ليفني وحزبها إلى مقاعد المعارضة.
ترتيب وضع الائتلاف
هواجس نتنياهو لم تنته مع تشكيل الحكومة وإقصاء «كاديما». ونظر إلى الـ 69 مقعدا في الكنيست كشبكة أمان غير كافية، وكان قلقا من «التفلتات» في حزب العمل (13 مقعدا) ضد سياسات الحكومة. لذلك عمل على خطين متوازيين: الأول، السعي لتوسيع الائتلاف الحكومي وكان له ذلك بانضمام «يهودت هتوراة» (5 مقاعد) إلى الحكومة وبذلك أصبح للائتلاف 74 مقعدا. والثاني معالجة الأوضاع في حزب العمل. وكان السبيل لذلك إقناع إيهود باراك بشق الحزب عبر الانسحاب منه. وقد حصل ذلك وخرج باراك مصحوبا بأربعة نواب، ليعود الائتلاف بشبكة أمان من 66 مقعدا، ولكن الأمر بالنسبة لنتنياهو كان يمثل أفضل الحلول الممكنة للحفاظ على استقرار الحكومة وقطع الطريق على محاولات إسقاطها.
ولا تخفي الأوساط المقربة من رئيس الوزراء الإسرائيلي أن ترتيب أوضاع الائتلاف الحكومي كان بالنسبة له أمرا جوهريا، ليس فقط لتقديم حالة الاستقرار كرسالة إلى مكونات المشهد السياسي والحزبي في إسرائيل بأنه قادر على إمساك دفة القيادة بحزم، بل هي في الأساس إجراءات جوهرية تمكنه من خوض المناورات السياسية على جبهات عدة، متسلحا بائتلاف حكومي «منسجم» ومتين، وقد استفاد من ذلك في غمرة التجاذبات مع واشنطن وغيرها بشأن ملف الاستيطان. كما ساعده هذا الانسجام اليميني في لعبة تبادل الأدوار، عندما تقف مكونات الائتلاف على «يمينه» في مسائل تتصل بالتسوية السياسية مع الجانب الفلسطيني، ولعب ليبرمان في هذا المجال دورا بارزا، وهو الأمر الذي مكَّن نتنياهو من معارضة الاقتراحات الخاصة بالاستيطان من زاوية أن قبولها يهدد الاستقرار الحكومي ويفجر الائتلاف القائم.
وعندما اقترحت الإدارة الأميركية تعديل تشكيلة الحكومة، أظهر نتنياهو موقفا متشددا في رفض ذلك. ووجه بذلك رسالة إلى أطراف الائتلاف بأن بقائهم مهدد في حال خرج أي منها عن القواسم المشتركة التي يرسمها هو بمواقفه. كما أنها رسالة معنوية لهذه الأطراف تبين لهم مدى تمسكه بـ «حلفائه» في السراء والضراء.
على جبهة التسوية
عندما أطلق باراك أوباما من على منبر جامعة القاهرة (4/6/2009) دعوته الشهيرة لإقامة دولة فلسطينية عبر المفاوضات مع إسرائيل، وحديثه عن ضرورة تجميد الاستيطان، لم تكن حكومة نتنياهو قد تجاوزت بكثير الأشهر الثلاثة من عمرها. وقد رأى نتنياهو في ذلك تحد «من طراز جديد» يفتح على خلافات مع حليف إسرائيل الاستراتيجي.
ومع التقاء المطالب الفلسطينية بتجميد الاستيطان مع الدعوة الأميركية المذكورة، بدا لرئيس الوزراء الإسرائيلي أنه من الأفضل أن تكون «المواجهة» مع واشنطن محسوبة بدقة. من هذه الزاوية وفي ذروة التجاذبات معها رأى بأن يدخل على موضوعة الاستيطان من باب إعلان التجميد الجزئي والمؤقت، معلنا عن عشرة أشهر يطبق خلالها هذا التجميد، في وقت كان قد أعد مخططا اعتراضيا على التطبيق الفعلي عنوانه الإيفاء بالالتزامات الاستيطانية السابقة على اعتبار أنها حق قانوني لأصحاب الاستكتاب على الوحدات السكنية، بالإضافة إلى إعفاء البناء العام من هذا التجميد. وهنا من المفيد القول بأنه ليس صدفة أن تكون الاستكتابات الاستيطانية مركزة من حيث الجوهر في مدينة القدس الشرقية والمستوطنات المحيطة بها.
نال نتنياهو موافقة واشنطن وترحيبها بهذا الإعلان والاعتبارات الإسرائيلية التي أفرغته من محتواه، وبذلك انحسرت التجاذبات بينهما وتوجه الضغط نحو الجانب الفلسطيني لحمله على دخول المفاوضات على حدود الرابع من حزيران 67 أساسا لقيام الدولة الفلسطينية المستقلة وهو ما يوفر للفلسطينيين الاعتراف بالقدس الشرقية كأرض محتلة ينبغي إزالة الاحتلال عنها.
بالنسبة لمعظم المراقبين، كانت تلك الخطوة وتواطؤ واشنطن بقبولها أساسا كافيا لبدء المفاوضات، بمثابة نقطة تحول حاسمة في الموقف الأميركي الذي أعلن عنه في خطاب أوباما الذي سبق ذكره.
لعبة المفاوضات
بعد قبول الجانب الفلسطيني المشاركة في المفاوضات غير المباشرة، أطلق نتنياهو ما في جعبته من مناورات بدأت بـ «الصمت» واللامبالاة أمام مطالب المفاوض الفلسطيني بضرورة تلقي الرد على اقتراحاته وتصوراته بشأن مسألة الحدود. وعندما كسر نتنياهو حاجز صمته ربط مابين الأمن والحدود وهو ما قبلت به واشنطن. وكان ذلك أول تعديل في جدول أعمال «غير المباشرة» وأدى ذلك إلى تجميد نقاش الملفين عمليا، على اعتبار أن نتنياهو أصر على ضرورة نقاش جميع القضايا الأساسية في المفاوضات المباشرة.
من المؤسف القول بأن عوامل عدة ساعدت على نجاح مناورات نتنياهو بشأن المفاوضات. بعضها يتعلق بأطراف دولية وفي المقدمة واشنطن ومكونات الرباعية الدولية التي كانت تصدر بياناتها ودعواتها للمفاوضات على إيقاع الموقف الأميركي، وكذلك الأمر بما يخص لجنة المتابعة العربية التي دخلت في محطات عدة على خط الضغوط الغربية و«نصحت» المفاوض الفلسطيني بدخول «التجربة» التفاوضية، كما ساهمت في إعطاء مهل وفرص للجهود الأميركية، من أجل إقناع الجانب الإسرائيلي بتجميد فعلي للاستيطان وإن كان مؤقتا، ليأتي الإعلان الأميركي لاحقا عن «إحباطه» لعدم تقدم الجانبين الفلسطيني والإسرائيلي نحو موقف وسط يمكن من إنجاح التسوية السياسية المنظورة.
لكن العامل الرئيسي الذي مكن نتنياهو من الاستمرار في مسلسل مناوراته هو المفاوض الفلسطيني ومرجعيته السياسية.
فعلى الرغم من أنها المرة الأولى التي يشهر فيها المفاوض الفلسطيني طلبات أساسية كمقدمة لازمة لبدء المفاوضات، إلا أنه عاود تكرار تراجعاته عن مواقفه. فعندما كان واضحا أن إعلان التجميد الذي أطلقه نتنياهو لمدة عشرة أشهر كان مجرد مناورة ولم يكن موقفا للتطبيق، تجاهل المفاوض الفلسطيني ومرجعيته السياسية هذه الحقيقة، وقبل دخول المفاوضات بمحطتيها «التقريبية» و«المباشرة». وساهم ذلك ـ كما كان متوقعا ـ بزيادة منسوب الضغط الأميركي على الجانب الفلسطيني للحصول على المزيد من التراجعات. ووصل الأمر بواشنطن إلى اتهامه بتعطيل التسوية عندما اعتبرت المطالب الفلسطينية المحقة بأنها «عقبة» على طريق تقدم هذه التسوية.
حتى عندما «تجرأ» المفاوض الفلسطيني على مغادرة قاعة التفاوض المباشر مع استفحال الاستيطان وانكشاف عدم وجود نية لدى الجانب الإسرائيلي بالوصول إلى تسوية متوازنة وشاملة، لم يغادر المفاوض ومرجعيته السياسية عملية التسوية بشروطها الراهنة وبقي يراهن على موقف ما من قبل الرباعية وخاصة بعد بيانها الشهير في أيلول/ سبتمبر الماضي الذي حدد مدة ثلاثة أشهر لفحص المواقف. ونذكر جميعا كيف تم تعطيل المسعى الفلسطيني نحو الأمم المتحدة بانتظار ما سمي باستحقاق 26/1/2012 موعد اجتماع الرباعية. وقد جاء الاجتماع وانتهى وبقيت المعادلة المنحازة للاحتلال دون تغيير جوهري.
لهذه الأسباب، لا ينبغي أن نعفي المفاوض الفلسطيني ومرجعيته السياسية من المسؤولية عن تمرير مناورات نتنياهو، الذي يحتفل مزهوا بعامه الثالث على رأس الحكومة.. وهو ينظر بعيدا نحو إنجازات أخرى ستكون بالتأكيد على حساب حقوق الشعب الفلسطيني المهدورة. (الحرية)
* رتب نتنياهو أوضاع الائتلاف الحكومي وفق إجراءات جوهرية تمكنه من خوض المناورات السياسية على جبهات عدة، متسلحا بائتلاف حكومي «منسجم» ومتين
* عوامل عدة ساعدت على نجاح مناورات نتنياهو بشأن المفاوضات، وفي المقدمة مكونات الرباعية الدولية التي كانت تصدر بياناتها ودعواتها للمفاوضات على إيقاع الموقف الأميركي
* بعد قبول الجانب الفلسطيني المشاركة في المفاوضات غير المباشرة، أطلق نتنياهو ما في جعبته من مناورات بدأت باللامبالاة أمام مطالب المفاوض الفلسطيني بضرورة تلقي الرد على اقتراحاته بشأن الحدود
* «تجرأ» المفاوض الفلسطيني على مغادرة قاعة التفاوض المباشر مع استفحال الاستيطان لكنه لم يغادر عملية التسوية بشروطها الراهنة وبقي يراهن على موقف ما من قبل الرباعية
مع انتهاء الشهر الحالي، تكون حكومة نتنياهو (الثانية) قد أتمت عامها الثالث في الحكم. وتقول المعطيات بأن هذه الحكومة ماضية نحو إكمال ولايتها القانونية إلا إذا وقع ما هو خارج الحسابات الحالية، أو رأى نتنياهو ضرورة إجراء انتخابات مبكرة استثمارا لمنسوب شعبيته المرتفع، يحسن من خلالها موقع حزبه في الكنيست بما يمكنه من تشكيل ائتلاف حكومي جديد، بشروط أقل كلفة من تلك التي دفعها من أجل تشكيل الائتلاف الحاكم.
ومنذ تنصيب حكومته في الكنيست (31/3/2009) توقع مراقبون ألا تعمر طويلا، وازداد عدد القائلين بهذا الاستخلاص إبان تصاعد التجاذبات بين واشنطن وتل أبيب في آذار/ مارس 2010 بشأن ملف الاستيطان الذي دعت الإدارة الأميركية على لسان رئيسها باراك أوباما إلى تجميده لإنجاح مسعى التسوية السياسية، وترافقت هذه التجاذبات مع دعوات أميركية وإسرائيلية (إيهود باراك)، لـ «تعديل» تشكيل الائتلاف الحكومي بإدخال حزب كاديما ورئيسته تسيبي ليفني على حساب حزب «إسرائيل بيتنا» بزعامة أفيغدور ليبرمان، على أن تتولى ليفني ملف التسوية لإكمال ما بدأته حكومة أولمرت بعيد مؤتمر أنابوليس خريف العام 2007، وخاضت وفقه مفاوضات مع الجانب الفلسطيني قبل أن تقلب طاولة التفاوض بشن عدوان واسع على قطاع غزة أواخر العام 2008.
لكن الائتلاف الحكومي بقي.. والذي انتهى هو التجاذبات مع واشنطن بعد تراجع أوباما وإدارته عن مطلب تجميد الاستيطان وحقق نتنياهو أبرز انتصاراته في ملف التسوية.. لكنه قبل ذلك كان قد حسم معارك داخلية عديدة لصالحه حتى تمكن من تشكيل الحكومة برئاسته على الرغم من حصول «كاديما» المنافس على مقاعد أكثر بنتيجة انتخابات الكنيست.
«عودة» نتنياهو و«آمال» ليفني
كان لدى كل من نتنياهو وليفني ما يأمل أن يحققه على الصعيد السياسي. فالأول أراد أن يبدأ بمحو سجل خسارته الموجعة في انتخابات العام 1999 أمام حزب العمل برئاسة إيهود باراك. وجاءت «عودة» نتنياهو إلى الميدان السياسي بعد أن تدهورت أحوال حزبه الليكود إثر خروج شارون وعدد واسع من قادة الحزب وكوارده، ليشكل حزب كاديما ويفوز برئاسة الحكومة في العام 2001. ووصل الأمر بالليكود إلى درجة أنه لم يحصل سوى على 12 مقعدا في انتخابات العام 2006 التي جدد فيها كاديما فوزه برئاسة إيهود أولمرت.
في مثل هذا الوضع، كان أي إنجاز يقوم به نتنياهو سيظهر جليا، في الوقت الذي كانت بوادر الإنهاك بدأت بالظهور على حزب كاديما، بعد غياب شارون عن الحياة السياسية وضعف أولمرت وافتقاده إلى الحنكة السياسية ثم وقوعه لاحقا في مسلسل من الفضائح المسلكية والقانونية.
بذلك تحرر نتنياهو من «عقدة» شارون الذي نجح على امتداد سنوات في كبح جموحه ولجم دوره وأفشل معارضته لسياساته وخاض في خطة الانسحاب من داخل قطاع غزة. كما وجد نتنياهو نفسه مرتاحا بغياب منافسين جديين داخل الليكود وخارجه.
أما تسيبي ليفني، التي تفتخر بأنها تتلمذت على يد شارون، فإنها رأت في إقصاء إيهود أولمرت فرصتها الذهبية، وهي التي كانت على قناعة بأنها من يستحق أن يخلف شارون بعد غيابه، ولطالما أبدت اعتراضاتها على رئاسة أولمرت للحزب وللحكومة ومحاولاته إقصاء دور وزارة الخارجية ـ التي كانت تتقلد حقيبتها ـ ولم تخف الدبلوماسية الأميركية في حينها برئاسة كوندوليزا رايس قناعتها بضرورة إعطاء دور أكبر لليفني في عملية التسوية مع الجانب الفلسطيني.
وكما هو حال نتنياهو، وجدت تسيبي ليفني نفسها متحررة من عقدة «مسؤولها» بعد إقصائه. ولم ترَ منافسا جديا لها داخل كاديما بعد أن حسمت زعامة الحزب لصالحها. كما رأت ضعف الأحزاب الأخرى في ظل تدهور أوضاع الليكود واضمحلال دور حزب العمل الذي يعاني من انقسامات حادة في صفوفه.
إقصاء «كاديما»
على الرغم من أن حزب كاديما برئاسة ليفني حصل في انتخابات العام 2009 على 28 مقعدا بزيادة مقعد واحد عن «الليكود» برئاسة نتنياهو. إلا أن قراءة النتائج لكل من الحزبين جاءت لمصلحة الأخير الذي حقق قفزة كبيرة في واقع الليكود من 12 مقعدا في الكنيست السابق إلى 27 أي بفارق 15 مقعدا. في حين جاءت نتيجة كاديما متراجعة بمقعد واحد عما كان الحزب قد حققه في الانتخابات السابقة، وهذا مهم على صعيد الوضع الداخلي ومكانة كل من نتنياهو وليفني في داخل حزب كل منهما. وتجلى ذلك لاحقا في إعادة نتنياهو تأكيد زعامته في انتخابات حزبه الداخلية لأكثر من مرة في حين تتعرض ليفني حتى الآن إلى محاولات جدية لإزاحتها.
وعمل بنيامين نتنياهو بنشاط من أجل إفشال محاولة ليفني تشكيل الحكومة وساعده في ذلك إيهود باراك الذي كان «أقصى» حلمه بأن يكون الرجل الثاني في الائتلاف الحاكم مع رجل قوي مثل نتنياهو على حساب أن يكون شريكا لليفني في حكومة قد لا تعمر طويلا وفق تقييمه للدور المستقبلي لحزب كاديما بعد غياب شارون وإقصاء أولمرت. وشكلت التركيبة اليمينية التي وسمت معظم تشكيلة الكنيست، العامل الحاسم الذي أفشل مهمة ليفني ومن ثم إحالة تشكيل الحكومة إلى بنيامين نتنياهو الذي فتح بازار العطاءات الوزارية على مصراعيه أمام الأحزاب الدينية واليمينية المتطرفة لإنجاح مسعاه في تشكيل ائتلاف يحظى بغالبية برلمانية مريحة.. وكان له ذلك بعد أن صوَّت 69 عضو كنيست لصالح الثقة في حكومته المقترحة، بذلك ترأس نتنياهو المشهد السياسي والحزبي الرسمي في إسرائيل وانتقلت ليفني وحزبها إلى مقاعد المعارضة.
ترتيب وضع الائتلاف
هواجس نتنياهو لم تنته مع تشكيل الحكومة وإقصاء «كاديما». ونظر إلى الـ 69 مقعدا في الكنيست كشبكة أمان غير كافية، وكان قلقا من «التفلتات» في حزب العمل (13 مقعدا) ضد سياسات الحكومة. لذلك عمل على خطين متوازيين: الأول، السعي لتوسيع الائتلاف الحكومي وكان له ذلك بانضمام «يهودت هتوراة» (5 مقاعد) إلى الحكومة وبذلك أصبح للائتلاف 74 مقعدا. والثاني معالجة الأوضاع في حزب العمل. وكان السبيل لذلك إقناع إيهود باراك بشق الحزب عبر الانسحاب منه. وقد حصل ذلك وخرج باراك مصحوبا بأربعة نواب، ليعود الائتلاف بشبكة أمان من 66 مقعدا، ولكن الأمر بالنسبة لنتنياهو كان يمثل أفضل الحلول الممكنة للحفاظ على استقرار الحكومة وقطع الطريق على محاولات إسقاطها.
ولا تخفي الأوساط المقربة من رئيس الوزراء الإسرائيلي أن ترتيب أوضاع الائتلاف الحكومي كان بالنسبة له أمرا جوهريا، ليس فقط لتقديم حالة الاستقرار كرسالة إلى مكونات المشهد السياسي والحزبي في إسرائيل بأنه قادر على إمساك دفة القيادة بحزم، بل هي في الأساس إجراءات جوهرية تمكنه من خوض المناورات السياسية على جبهات عدة، متسلحا بائتلاف حكومي «منسجم» ومتين، وقد استفاد من ذلك في غمرة التجاذبات مع واشنطن وغيرها بشأن ملف الاستيطان. كما ساعده هذا الانسجام اليميني في لعبة تبادل الأدوار، عندما تقف مكونات الائتلاف على «يمينه» في مسائل تتصل بالتسوية السياسية مع الجانب الفلسطيني، ولعب ليبرمان في هذا المجال دورا بارزا، وهو الأمر الذي مكَّن نتنياهو من معارضة الاقتراحات الخاصة بالاستيطان من زاوية أن قبولها يهدد الاستقرار الحكومي ويفجر الائتلاف القائم.
وعندما اقترحت الإدارة الأميركية تعديل تشكيلة الحكومة، أظهر نتنياهو موقفا متشددا في رفض ذلك. ووجه بذلك رسالة إلى أطراف الائتلاف بأن بقائهم مهدد في حال خرج أي منها عن القواسم المشتركة التي يرسمها هو بمواقفه. كما أنها رسالة معنوية لهذه الأطراف تبين لهم مدى تمسكه بـ «حلفائه» في السراء والضراء.
على جبهة التسوية
عندما أطلق باراك أوباما من على منبر جامعة القاهرة (4/6/2009) دعوته الشهيرة لإقامة دولة فلسطينية عبر المفاوضات مع إسرائيل، وحديثه عن ضرورة تجميد الاستيطان، لم تكن حكومة نتنياهو قد تجاوزت بكثير الأشهر الثلاثة من عمرها. وقد رأى نتنياهو في ذلك تحد «من طراز جديد» يفتح على خلافات مع حليف إسرائيل الاستراتيجي.
ومع التقاء المطالب الفلسطينية بتجميد الاستيطان مع الدعوة الأميركية المذكورة، بدا لرئيس الوزراء الإسرائيلي أنه من الأفضل أن تكون «المواجهة» مع واشنطن محسوبة بدقة. من هذه الزاوية وفي ذروة التجاذبات معها رأى بأن يدخل على موضوعة الاستيطان من باب إعلان التجميد الجزئي والمؤقت، معلنا عن عشرة أشهر يطبق خلالها هذا التجميد، في وقت كان قد أعد مخططا اعتراضيا على التطبيق الفعلي عنوانه الإيفاء بالالتزامات الاستيطانية السابقة على اعتبار أنها حق قانوني لأصحاب الاستكتاب على الوحدات السكنية، بالإضافة إلى إعفاء البناء العام من هذا التجميد. وهنا من المفيد القول بأنه ليس صدفة أن تكون الاستكتابات الاستيطانية مركزة من حيث الجوهر في مدينة القدس الشرقية والمستوطنات المحيطة بها.
نال نتنياهو موافقة واشنطن وترحيبها بهذا الإعلان والاعتبارات الإسرائيلية التي أفرغته من محتواه، وبذلك انحسرت التجاذبات بينهما وتوجه الضغط نحو الجانب الفلسطيني لحمله على دخول المفاوضات على حدود الرابع من حزيران 67 أساسا لقيام الدولة الفلسطينية المستقلة وهو ما يوفر للفلسطينيين الاعتراف بالقدس الشرقية كأرض محتلة ينبغي إزالة الاحتلال عنها.
بالنسبة لمعظم المراقبين، كانت تلك الخطوة وتواطؤ واشنطن بقبولها أساسا كافيا لبدء المفاوضات، بمثابة نقطة تحول حاسمة في الموقف الأميركي الذي أعلن عنه في خطاب أوباما الذي سبق ذكره.
لعبة المفاوضات
بعد قبول الجانب الفلسطيني المشاركة في المفاوضات غير المباشرة، أطلق نتنياهو ما في جعبته من مناورات بدأت بـ «الصمت» واللامبالاة أمام مطالب المفاوض الفلسطيني بضرورة تلقي الرد على اقتراحاته وتصوراته بشأن مسألة الحدود. وعندما كسر نتنياهو حاجز صمته ربط مابين الأمن والحدود وهو ما قبلت به واشنطن. وكان ذلك أول تعديل في جدول أعمال «غير المباشرة» وأدى ذلك إلى تجميد نقاش الملفين عمليا، على اعتبار أن نتنياهو أصر على ضرورة نقاش جميع القضايا الأساسية في المفاوضات المباشرة.
من المؤسف القول بأن عوامل عدة ساعدت على نجاح مناورات نتنياهو بشأن المفاوضات. بعضها يتعلق بأطراف دولية وفي المقدمة واشنطن ومكونات الرباعية الدولية التي كانت تصدر بياناتها ودعواتها للمفاوضات على إيقاع الموقف الأميركي، وكذلك الأمر بما يخص لجنة المتابعة العربية التي دخلت في محطات عدة على خط الضغوط الغربية و«نصحت» المفاوض الفلسطيني بدخول «التجربة» التفاوضية، كما ساهمت في إعطاء مهل وفرص للجهود الأميركية، من أجل إقناع الجانب الإسرائيلي بتجميد فعلي للاستيطان وإن كان مؤقتا، ليأتي الإعلان الأميركي لاحقا عن «إحباطه» لعدم تقدم الجانبين الفلسطيني والإسرائيلي نحو موقف وسط يمكن من إنجاح التسوية السياسية المنظورة.
لكن العامل الرئيسي الذي مكن نتنياهو من الاستمرار في مسلسل مناوراته هو المفاوض الفلسطيني ومرجعيته السياسية.
فعلى الرغم من أنها المرة الأولى التي يشهر فيها المفاوض الفلسطيني طلبات أساسية كمقدمة لازمة لبدء المفاوضات، إلا أنه عاود تكرار تراجعاته عن مواقفه. فعندما كان واضحا أن إعلان التجميد الذي أطلقه نتنياهو لمدة عشرة أشهر كان مجرد مناورة ولم يكن موقفا للتطبيق، تجاهل المفاوض الفلسطيني ومرجعيته السياسية هذه الحقيقة، وقبل دخول المفاوضات بمحطتيها «التقريبية» و«المباشرة». وساهم ذلك ـ كما كان متوقعا ـ بزيادة منسوب الضغط الأميركي على الجانب الفلسطيني للحصول على المزيد من التراجعات. ووصل الأمر بواشنطن إلى اتهامه بتعطيل التسوية عندما اعتبرت المطالب الفلسطينية المحقة بأنها «عقبة» على طريق تقدم هذه التسوية.
حتى عندما «تجرأ» المفاوض الفلسطيني على مغادرة قاعة التفاوض المباشر مع استفحال الاستيطان وانكشاف عدم وجود نية لدى الجانب الإسرائيلي بالوصول إلى تسوية متوازنة وشاملة، لم يغادر المفاوض ومرجعيته السياسية عملية التسوية بشروطها الراهنة وبقي يراهن على موقف ما من قبل الرباعية وخاصة بعد بيانها الشهير في أيلول/ سبتمبر الماضي الذي حدد مدة ثلاثة أشهر لفحص المواقف. ونذكر جميعا كيف تم تعطيل المسعى الفلسطيني نحو الأمم المتحدة بانتظار ما سمي باستحقاق 26/1/2012 موعد اجتماع الرباعية. وقد جاء الاجتماع وانتهى وبقيت المعادلة المنحازة للاحتلال دون تغيير جوهري.
لهذه الأسباب، لا ينبغي أن نعفي المفاوض الفلسطيني ومرجعيته السياسية من المسؤولية عن تمرير مناورات نتنياهو، الذي يحتفل مزهوا بعامه الثالث على رأس الحكومة.. وهو ينظر بعيدا نحو إنجازات أخرى ستكون بالتأكيد على حساب حقوق الشعب الفلسطيني المهدورة. (الحرية)