زراعة القمح بين الديسي والسودان وروسيا !

جودة الهطل المطري لهذا الموسم دفعت وزارة الزراعة إلى تشجيع المزارعين على زراعة القمح والمحاصيل الحقلية فيما تبقى من مساحات صالحة لها, وهذا ما يطرح الأزمة التي يعاني منها الأردن عبر عقود من انحسار مثل هذه المزروعات الاستراتيجية, التي تقدر مستوردات الأردن منها بمئات الملايين من الدولارات سنوياً, نظراً لتوالي انخفاض الانتاج المحلي إلى حد التلاشي تماماً حتى أن مجرد وصوله إلى حوالي عشرة آلاف طن يصبح خبراً عبر وسائل الإعلام, في الوقت الذي كنا فيه نقف على عتبات الاكتفاء الذاتي خلال سني الخير التي ولت وباتت من ماضي الزمان.
كان الأردن قد تنبه قبل أكثر من ثلاثين عاماً إلى أن استمرار اعتماده على الأسواق الخارجية في توفير مادة القمح تحديداً وطحينها الذي لا يستغني عنه أحد يومياً يعد مساساً مباشراً بأمنه الغذائي, لهذا لا بد من انتهاج سياسة زراعية تحاول تعويض ما يمكن منها من خلال الانتاج المحلي, إلا أن تقلص المساحات المخصصة لزراعة الحبوب وتوالي انخفاض المعدلات المطرية بفعل الانحباس الحراري وغيره, جعلته يحاول البحث عن بدائل داخلية وخارجية مناسبة يمكن لها أن تغطي نسبة من استهلاكه المحلي المتزايد عاماً بعد آخر.
من هذا المنطلق انبثقت فكرة تأجير آلاف الدونمات من سهول الديسي في مطلع الثمانينيات من القرن الماضي إلى ما تسمى حالياً شركات الجنوب الزراعية بثمن لا يزيد على عشرة قروش للدونم الواحد, لكن شريطة أن تتم زراعتها بشكل رئيسي بمادة القمح وبعض المحاصيل الحقلية والعلفية لصلاحيتها لها مع توفر مخزون مائي كبير, إلا أن هذه الشركات ضربت عرض الحائط الاتفاقيات المبرمة مع الحكومة في ذلك الحين وراحت تزرعها بالأشجار والخضراوات التي تنافس منتجات المناطق الزراعية الأردنية في الأراضي الغورية والشفاغورية , لتؤدي إلى حدوث اختناقات تسويقية, فضاعت زراعة القمح والحبوب في إغراق الأسواق المحلية بمواد متوفرة أصلاً, هذا غير تسويق أنواع معينة من الفواكه والخضار إلى الخارج, مما أوصل الأمور إلى مأزق المحاولات الحكومية لإنهاء التعاقدات معها والتي لم تنجح بعد.
بعد أن ثبت فشل جهود إعادة إنتاج القمح من الأراضي الأردنية بدأ البحث عن الأراضي الملائمة لزراعته في الخارج, وبعد مباحثات مع السودان المعروف بخصوبة أراضيه وغزارة مياهه ومساحاته المترامية الأطراف قامت هذه الدولة الشقيقة بتخصيص حوالي نصف مليون دونم منها للأردن قبل أكثر من عشرين عاماً من أجل استغلالها في زراعة القمح والحبوب الأخرى والأعلاف, إلا أن السنين مضت دون الاستفادة منها من قبل مشروع سوى ما قامت به القوات المسلحة الأردنية على بضعة آلاف منها فتم تخفيض المساحة إلى النصف ومع ذلك بقيت على ما هي عليه دون حرث أو زرع, وتقلصت إلى مئة وعشرين ألف دونم قبل حوالي خمس سنوات إلا أنها مرشحة إلى إنهاء التخصيص خلال اجتماعات اللجنة الأردنية السودانية المشتركة في تموز المقبل لأنه لم يتم استغلالها بتاتاً ! .
رغم كل هذا الفشل الذريع في زراعة القمح داخل الأردن وخارجه تردد قبل أشهر أن هناك توجهاً أردنياً للتباحث مع روسيا من أجل أن تخصص له مساحات من أراضيها الشهيرة بزراعة القمح رغم أنه لم ينجح في ذلك مع السودان, وهذا ما يطرح تساؤلاً مشروعاً فيما إذا كانت هناك إرادة حقة لدى الحكومات المتعاقبة من أجل التوسع في زراعات القمح داخلياً وخارجياً, أم أن الأمر لا يعدو كونه مجرد جهود استعراضية لذر الرماد في العيون في حين يتم انفاق مئات الملايين على مستورداتنا منه دون توفر أية نية صادقة لتعويض البعض منها. - العرب اليوم -