ماذا حدث .. ولماذا حدث؟!

هل لديك وظيفة؟ لا، تخرجت في الجامعة منذ خمس سنوات، ولي ثلاثة اطفال واسكن في شقة بالايجار، وكيف تدبّر مصاريف العائلة؟
أعمل بعد الظهر سائق تكسي بالاجرة، وكم قيمة الاجرة: مئة وسبعون ديناراً.
كانت تلك اجابة أحد الشباب الذين التقيتهم بالصدفة، ذكر لي انه أنهى دراسته بتفوق، وبينما أصبح زميله على مقاعد الدراسة في موقع متقدم في الحكومة ما زال هو في طابور "الباحثين" عن وظيفة.
تذكرت على الفور الكاتب المصري جلال أمين، كنت قرأت كتابه قبل اندلاع الثورة في مصر "ماذا حدث للمصريين"، وكتابه الذي صدر قبل نحو شهر "ماذا حدث للثورة المصرية، وما زلت اتذكر هذا الحوار الذي دار بينه وبين عامل في دار السينما.
"هل أنت متزوج؟ نعم، ولي طفلان، نعيش في شقة بالايجار.. وما قيمة الايجار: اربعمئة وخمسون جنيهاً، لا تغضب مني إذا سألتك عن مرتبك.. مائتا جنيه!".
لاحظ الكاتب أن العامل الذي يحمل شهادة في "الحاسوب" يتلهف على "البقشيش" بطريقة أزعجته، وتساءل: لماذا وصل الشباب إلى هذه الدرجة البائسة من الاحساس بالظلم.. ولماذا تراجعت قيمهم الاجتماعية أيضاً.
الاجابة كاملة يقدمها في كتابيه المذكورين، وهي باختصار تدور حول "ضعف الدولة" حين يصيب الشلل اراداتها بسبب الفساد وسيطرة المال واستلامها بالتدرج لارادة قوى خارجية لها اغراض مختلفة تماماً عن ما في صالح المصريين.
حين سُئل الرجل ما "السرّ" وراء نجاح كتابه الاول، قال: "لاحظت في السنوات الماضية أن المصريين يسألون: ماذا حدث لنا، والجميع يتوق لمعرفة الاجابة، والفكرة الاساسية التي دفعتني لتأليف هذا الكتاب هو "الحراك" الاجتماعي الذي بدأ في السنوات الأخيرة، وكان خلال هذه الفترة اكبر وأسرع بكثير من الذي حدث للمصريين خلال تاريخهم كله (فاللي فوق نزلوا تحت، واللي تحت طلعوا فوق، كأنهم في عمارة واحدة، والجميع تقابلوا على السُلَّم فحدث نوع من الاشتباك والاختلاف والعبث).
لكن ماذا حدث للاردنيين؟ أعادني الشاب الذي روى لي قصته وقصصاً اخرى لزملاء يعرفهم نفد صبرهم وهم يبحثون عن "أمل" الى هذا السؤال مجدداً، واستعدت في ذهني ما سمعته في الحراكات التي نشهدها في الشارع من قصص لشباب "شقوا" عصا الطاعة "الابوية" وهجروا منازلهم لاصرارهم على المطالبة بحقوقهم، ولآخرين ضاقت بهم الحياة "فانتحروا" أو دخلوا السجن بسبب شيكات حرروها بلا رصيد لتسديد التزاماتهم، تذكرت ايضاً أن "انقلاب الهرم الطبقي" الذي سمح بصعود فئات من الفقراء إلى أعلى السلم الاجتماعي والسياسي وهبوط فئات اخرى (وهو ما حدث في مصر)، وما حدث من زواج بين "البزنس والسلطة" ومن هبوط لاخلاقيات العمل العام ومن تراجع للقيم والذوق.. كل هذا وغيره أسهم في نشوء حالة من "القهر" والاحباط تمددت وتغلغلت وسط مجتمعنا، لكنها ظلت "كامنة" حتى وجدت "ثقباً" أتاح لها أن تخرج، وحين خرجت صدمت الكثيرين، ومع أن الجميع يعرفها، الا انها ظلت في مجالها "الافتراضي" بسبب أننا لا نريد أن نفهم الاجابة عن السؤال الأهم "ماذا حدث.. ولماذا حدث"؟.
بوسع الذين يشعرون بالقلق من الاحتجاجات التي تتصاعد في بعض المدن والأطراف، ان يقرؤوا ما حصل مع الاردنيين في السنوات الماضية، وأن يفتحوا عيونهم على ما حولنا ليروا ما يحدث هناك، وبوسعهم ايضاً أن ينزلوا إلى احدى المكتبات لشراء ما كتبه جلال امين.. ليدركوا أن مجتمعنا تغير كثيراً.. والمطلوب منهم أن يتغيروا أيضاً.