(بحث)
أسير بمحاذاة البنك..ثمة امرأة تجاوزت الأربعين ،وقطيع من الرغبات ينز من جسدها المحاصر بملابس ضيقة لم تنجح بإبراز مفاتنه التي أطاحت بكثيرين يوما ما! ها هو الآن يقف أمامي بكامل ارتخائه و لا أبدي له أدنى اهتمام ،عيناها الذابلتان تتفحصاني كما لو أنني ارتكبت خطيئة بعدم اكتراثي له !
أقول في نفسي : ليس هنا..وأمضي.!.
أسير بمحاذاة المقهى....رجال يتحلقون حول طبيب تنطلق الكلمات من فمه بسلاسة.. المصطلحات الأجنبية التي أقحمها في حديثة عن مرض السرطان، أضفت مزيدا من الوقار على سحنته و منحته ثقة لا محدودة في نفسه.. أمعنت في تلك الوجوه المصابة بالذعر وهي تتبع يد الطبيب الذي يبدو و كأنه ملاك هبط عليهم فجأة يحذّرهم اقتراب الكارثة. لم أجد لي مكانا بينهم..فتابعت المسير .
أسير بمحاذاة الحديقة.. أرى المقعد المعطّل و أكواب القهوة الفارغة و الورود الملقاة على الرصيف، أرى الحارس القديم و شجرة اللوز الباسقة وأشتم رائحة مميزة تفوح من هناك و أحزن ،لأن تلك الرائحة لا تذكرني بشيء! أتابع السير و أقول: ليس هنا على أي حال.
أتوقف مع واحد من الشعراء الكبار..و بعد حديث طويل عن تعثر الحالة الثقافية في المنطقة..يسألني عن بائع الكعك، عن مقهى "الاسماعيلي" عن كراسي القش ..يقول : لقد تغيرت المدينة يا رجل، لقد تغيّرت كثيرا ..أقسم أن ليلى و سوزان و مادلين قد أصبحن أمهات رزينات...أدفع نصف عمري لأعرف أين ذهب كل هؤلاء.
أجيبه : أدفع عمري كله لأعرف أين ذهبت المدينة! يبتسم ،و نفترق على مقربة من المقبرة!
أسير بمحاذاة المقبرة بمحاذاة المحال التجارية بمحاذاة المخبز ... لا أجد ضّالتي.. و لا يفارقني ذلك الشعور الهائل بالفقد.
أعبر الشوارع تلو الشوارع ،وأعود منهكا للبيت بعد تجوال طويل..أتابع التلفاز لمدة نصف ساعة أتابع واحدة من تلك المحطات الدعائية، السيدة تتحدث عن حمّالات الصدر، وعن الراحة التي ستوفرها منتجات تلك الشركة للنساء..تتحدث كما لو أن الصدر يشكل عبئا حقيقيا للمرأة !
أغلق التلفاز و أستدير باتجاه المطبخ..أتناول عشاءا خفيفا..ثم أمضي إلى فراشي..أتقلّب كثيرا قبل النوم "ربما أعاني فرط الوحدة!"، أنام بعد عناء كبير... في الصباح أنهض من فراشي مذعورا، أفتح أبواب الغرف الثلاث.. أدور في البيت..أبحث تحت الأغطية الملقاة في الصالون ،تحت الطاولة وفي الحمام..أبحث في كل مكان داخل البيت .. أبحث في كل زاوية من زواياه.. ولا أجدني، أبدل ثيابي على عجل و أخرج إلى شوارع المدينة باحثا عنّي !