رواية"يحي الكركيّ" وأحوال زماننا

أبسط أسلوب استخدمه الطغاة (ويستخدمونه), لفرض سلطاتهم وكتم أصوات معارضيهم, هو توظيف الدين لخدمة أغراضهم السياسيَّة الدنيّويّة. والمفارقة أنَّه حتَّى في الحالات التي يكون فيها الحاكم المستبدّ ذا توجّه علمانيّ, فإنَّه لا يستطيع أنْ يفرض استبداده إلا عن طريق صياغة مبادئه العلمانيَّة في قالبٍ دينيّ الجوهر علمانيّ المظهر. وفي الحالين, يصبح رأي الحاكم وسلطاته وسياساته لها سمة قدسيَّة مطلقة; ما يعني أنَّ كلّ مَنْ يعارضها, أو يختلف معها, أو لا يقرّها بالكامل, هو مجدِّف, أو منحرف, أو كافر, أو حتَّى خارج على الملّة.
هذا ما فكَّرتُ به, أمس الأوَّل, وأنا في طريقي إلى جامعة البترا لحضور ندوة أدبيَّة عن رواية صديقتنا وزميلتنا الأديبة الأردنيَّة المعروفة سميحة خريس, الموسومة "يحي الكركيّ".
وتذكَّرتُ كيف لمعتْ فكرة هذه الرواية في ذهن كاتبتها في البداية; فقد كنَّا حاضرين معاً في إحدى جلسات المؤتمر الثقافيّ للجامعة الأردنيَّة, قبل سنوات, وكان الدكتور مهنَّد مبيضين يقدِّم ورقةً بحثيَّة عن بعض جوانب تاريخ بلاد الشام, وجاءتْ على لسانه إشارة عابرة إلى واقعة إعدام مثقَّفٍ أزهريّ, اسمه يحي الكركيّ, في القرن السابع عشر, بتهمة الكفر, لأنَّه تساءل عن جواز الدعاء, في المساجد, ل¯"أمير المؤمنين" (السلطان العثمانيّ) في حين أنَّ الظلم والفقر يعمّان الديار الإسلاميَّة. كانت سميحة تجلس الى جانبي, وعندئذٍ همستْ في أذني قائلةً: هذه روايتي المقبلة.
بعد ذلك, أصبح يحي الكركيّ هاجسها الذي لا يخمد, وانصرفتْ إلى البحث عن أيّ معلومة تتعلَّق به أو بزمانه, أو في الوثائق العثمانيَّة. وقد درستْ تقاليد الناس, في زمانه, وأشكال معيشتهم, وأدواتهم, وأنماط لبسهم, وأعمالهم, وصراعاتهم.. إلى أنْ خرجتْ في النهاية بروايتها المميَّزة.
في الندوة تحدَّثتْ الدكتورة رزان إبراهيم, بعمقٍ وذكاء, عن الجوانب الفنيَّة للرواية; غير أنَّ أكثر ما لفت نظري, واستوقفني, هو حديثها عن الإسقاطات التاريخيَّة للرواية على الواقع العربيّ الحاليّ; خصوصاً في ظلّ ما يجري الآن مِنْ توظيفٍ للدين لخدمة أغراض السياسة; الأمر الذي يعني نقل الخلافات العاديَّة, بشأن الموضوعات السياسيَّة والاجتماعيَّة والاقتصاديَّة, مِنْ دائرة الحالة الطبيعيَّة المشروعة والضروريَّة, إلى دائرة الكفر والإيمان والحلال والحرام; وبالنتيجة, إغلاق باب الحوار والنقاش نهائيّاً.
والطرف الذي يوظِّف الدين لخدمة السياسة يتصرَّف, كما هو المنطق الطبيعيّ لهذه الحالة, على أساس أنَّه وسيط منتدب بين الدين والناس وأنَّ كلّ مَنْ عاداه ينطق عن هوى. أي أنَّه يمنح نفسه مكانة الأنبياء ودورهم! فأيّ مستنقعٍ آسنٍ سيجد الناس أنفسهم فيه, بعد سنواتٍ قليلة, لو أُتيح لمثل هذه الأفكار الخطيرة أنْ تحكم البلاد العربيَّة وتفرض منطقها العقيم على الناس!
وقد لفتَ نظري, أيضاً, في الندوة, أنْ طلّاب الجامعة, وأساتذتها, الذين شاركوا في النقاش, انطلق معظمهم, في مداخلاته واستفساراته, مِنْ هذا الهاجس المقلق واحتمالاته الخطيرة الماثلة في زماننا, كما عبَّرت عنها رواية سميحة ضمناً; ما يؤكِّد حقيقة أنَّه هاجس عامّ لدى أوساط اجتماعيَّة واسعة.
تجدر الإشارة إلى أنَّ رواية "يحي الكركيّ" كُتِبَت قبل الانتفاضات العربيَّة الأخيرة وما انبثق منها (وإلى جانبها) مِنْ أنماط الثورة المضادَّة; لكنَّ الرواية, مع ذلك, تستشرف احتمالات الارتداد والانتكاس للأوضاع العربيَّة, في المدى المنظور, وتحذِّر منها. وهذه هي بعض جوانب مسؤوليَّة الأدب الجيِّد ودوره الاجتماعيّ الإيجابيّ.
(العرب اليوم)