نيسان الشعب ونيسان النخبة

هذا المقال ليس أكثر من محاولة سريعة لتفسير جانب من الصعوبة النسبية في إحياء ذكرى هبة نيسان ,1989 وهي الصعوبة ذاتها التي تتكرر للسنة الثانية على التوالي رغم أن البلد تعيش في حالة "حراك شعبي"!

الواقع أن هناك فرقاً جوهرياً بين هبة نيسان 89 والتحركات الجارية في السنة الأخيرة, ولعل هذا الأمر يلمسه "المتحركون" الحاليون حتى في المناطق التي كانت ميداناً للهبة عام 89 أي مدينة معان بالذات ثم الكرك والطفيلة وباقي المدن. وهذا الفرق يكمن أساساً في طبيعة المكوّن الشعبي, ففي حين كانت الأوساط الشعبية الفقيرة عام 89 هي التي تحركت وخاصة في معان وما حولها, فإن العنصر الأساسي المكون للتحركات الحالية هو النخب وإن كانت تشمل هذه المرة دائرة واسعة من النخب, فهي تشمل الى جانب الحزبيين مجموعات من الاعلاميين والمثقفين وأصدقاء الحزبيين.

تعالوا ندقق أكثر في المقارنة:

ففي عام 89 كان الفصل بين دور الحزبيين (لم تكن كلمة نخب قد انتشرت) والدور الشعبي واضحاً وحاداً, واسمحوا لي بأن أكتب بعض الذكريات: فقد اعتقل عام 89 عدة مئات من أبناء معان وما حولها وأمضوا أياماً صعبة, وبعضهم اعتقل لأكثر من مرة, ولم يحز أي منهم حينها على لقب "ناشط" , أو "معتقل رأي". وإلى جانب هذه المئات من فقراء تلك المنطقة, اعتقل بضع عشرات من أعضاء الأحزاب اليسارية والقومية, كان من نصيبهم الكثير من الاهتمام الاعلامي النسبي بالطبع.

ورغم أن الاعتقال تم في السجن نفسه (سواقة), إلا أنه تم الفصل بين المجموعتين كلياً, بل إن بعض اللقاءات السريعة التي كانت تتم عفواً وبالصدفة في طرقات السجن كانت توضح أن الطرفين ينتميان الى مجموعتين مختلفتين اجتماعياً. فذات نهار كان سجين حزبي سمين يمر قرب سجين من أبناء معان, ولما أبلغ الأولُ الثاني أنه -مثله- سجين بسبب المظاهرات, تفاجأ المعاني وقال له: لكن لا يبدو عليك الفقر والحاجة!

اليوم لا ينبغي أن تتفاجأ النخبة الناشطة رغم اتساعها النسبي, من فشل محاولة إحياء الذكرى على مستوى شعبي, فالذين خاضوا الهبة فعلياً من فقراء الجنوب, لايعتبرونها ذكرى للاحياء الاحتفالي, إنها بالنسبة اليهم ذكرى للكفاح الصعب وللتضحية, ثم أنهم وهذا هو الأهم, لم يحصدوا أياً من نتائجها, فقد اقتصرت هذه النتائج على قضايا الاصلاح والانفتاح السياسي والاعلامي, أي أنها كانت هبة ذات محتوى اجتماعي عميق بينما كانت نتائجها سياسية/ إعلامية بالدرجة الأولى. ولهذا السبب ربما, لم تصمد هذه النتائج طويلاً, فهي غير مسنودة الى بعد اجتماعي اقتصادي تنموي كما كانت الهبة تطالب, ضمنياً أو بشكل معلن.

في السنة الأخيرة وربما قبل ذلك بقليل, جرت بالطبع تحركات ذات محتوى شعبي حقيقي, غير أن الفصل بين ما صار يعرف الآن ب¯"الحراك" والأوساط الشعبية, لا يزال قائماً الى درجة كبيرة, رغم محاولات مخلصة قامت بها بعض فرق النشطاء. وبهذا المعنى فلا يزال الفرق الجوهري بين نيسان الشعب ونيسان النخبة قائماً الى درجة ملحوظة.

غير أن المناسبة تستدعي همسة أخرى, أضعها بهدوء في أذن التيار الاسلامي الذي أعلن هذا العام أنه يوقف نشاطه الاعتيادي يوم الجمعة بهدف المشاركة في إحياء هبة نيسان في الطفيلة: إذ يمكن القول اليوم أنه ليست المشكلة في أن الاسلاميين لم يشاركوا في هبة نيسان ,89 فهذا شأن يمكن ان نردّه الى تبدل طبيعي في القناعات والمواقف السياسية, ولكن ألا تستحق القناعة "المستجدة" بإحياء مناسبة هبة نيسان, أنْ تقدّم الحركة الاسلامية شيئاً من الاعتذار للهبة التي لم تشارك به وللتضحيات التي سكتت عنها في وقتها?

(العرب اليوم)