الحصاد المسيحي لزيارة القدس تحت الاحتلال
(إذا كانت "زيارة " العرب والمسلمين للقدس تحت الاحتلال دعما لها ولأهلها ولقضية شعبها، ألن تكون كذلك أيضا "إقامة " سفاراتهم فيها حسب المنطق ذاته)
يوم الأربعاء الماضي جدد الرئيس محمود عباس دعوته للعرب المسلمين و "المسيحيين " لزيارة القدس المحتلة. ولأن لكل امرئ ما نوى، والله وحده الأعلم بالنيات، فإن الرفض لدعوته لن يشتط حد الشك في أنه هو أو أي عربي أو مسلم داخل فلسطين أو خارجها يؤيد عامدا متعمدا تقديم هدية مجانية بملايين "الزوار " العرب والمسلمين للسياحة في دولة الاحتلال، لكن الحصاد المسيحي لزيارة القدس تحت الاحتلال بدواع مماثلة أثمر نتائج عكسية ويمثل سابقة مليئة بالعبر توجب عدم تكرارها عربيا وإسلاميا.
فالكنائس المسيحية المختلفة في ما بينها استنفرها الخطر المحدق ب "الوجود المسيحي " في الأراضي المقدسة بقلسطين خاصة كي تعقد المؤتمرات خلال السنوات الأخيرة من أجل "توحيد " جهودها لانقاذ هذا الوجود، بعد أن فشلت في حمايته زيارات للقدس وهي تحت الاحتلال على أرفع مستوى ديني قام بها ثلاثة من بابوات الفاتيكان الذي يقود أكبر الكنائس المسيحية عددا خلال خمسة وأربعين عاما (البابا بولس السادس والبابا يوحنا بولس الثاني وأخيرا البابا الحالي بنديكت السادس عشر في اعوام 1964 و2000 و2009 على التوالي).
وقد تذرعوا جميعا بأن زيارتهم كانت "حجا " دينيا، بالرغم من تحوله عمليا إلى موسم سياحي، وبالرغم من استثمار دولة الاحتلال لهذا الحج الديني سياسيا خير استثمار لصالحها، تماما مثلما سوف تستثمر أي "شد للرحال " العربية والاسلامية إلى القدس وهي تحت الاحتلال.
فالوجود المسيحي المتآكل في القدس يكاد يحول كنائسها إلى آثار ومتاحف تفتقد من يتعبدون فيها وتصلح فقط لجذب ملايين السياح إلى دولة الاحتلال التي أعلنت المدينة "عاصمة موحدة وأبدية " لها، بالرغم من "الحج " المسيحي إليها على أرفع مستوى.
عندما زار البابا الحالي بنديكت السادس عشر القدس عام 2009، أعلن المطران عطا الله حنا رئيس أسلقفة سبسطية للروم الأورثوذكس أن "البابا بنديكت ليس مرحبا به في الأرض المقدسة في الظروف الحالية "، وتعليقا على الجدل الراهن حول زيارة القدس نسبت إليه صحيفة القدس المقدسية في العشرين من الشهر الجاري قوله: "إنني أرفض زيارة القدس في ظل الاحتلال، فهذا موقف مبدئي أتمسك به وسأبقى "، لأن زيارتها تعطي "شرعية لمن لا شرعية له "، ولأن "إسرائيل هي المستفيد الحقيقي من هذه الزيارات اقتصاديا وسياسيا وإعلاميا "، ولأنها "تستغل السياحة الدينية لأغراض سياسية ".
وتوجد أهمية خاصة لموقف المطران عطا الله المماثل لموقف الراحل البابا (نظير جيد روفائيل) شنودة الثالث بابا الاسكندرية وبطريرك الكرازة المرقسية في مصر والعالم، لأنهما يمثلان أكبر الكنائس المسيحية العربية عددا أولا، ويمثلان ثانيا الكنائس التي لم ينقطع وجودها بين العرب والمسلمين بعد حروب الفرنجة المعروفة اليوم باسم الحروب الصليبية كما انقطعت الكنائس الغربية التي عادت أو دخلت الوطن العربي مع الاستعمار الأوروبي في القرن التاسع عشر على أنقاض الخلافة العثمانية، ويمثلان ثالثا لذلك الكنائس الأوثق ارتباطا بالأرض العربية وبأشقائهم من العرب المسلمين.
في الثامن من الشهر الجاري أعلنت تل أبيب الأديب والشاعر الألماني الحائز على جائزة نوبل غونتر غراس "شخصا غير مرغوب فيه " ومنعته من "زيارة " دولة الاحتلال الاسرائيلي بسبب قصيدة حث فيها بلاده على عدم بيع الأسلحة لها، بعد أن أجازت المستشارة الألمانية انجيلا ميركل أواخر العام الماضي تزويدها بغواصة سادسة من نوع "دلفين " قادرة على حمل أسلحة نووية ك "مكافأة " لها على إفراجها عن مستحقات الضرائب الفلسطينية!
وغرق الخبران ودلالاتهما السياسية في خضم الجدل البيزنطي الديني والسياسي المحتدم بين العرب والمسلمين حول ما إذا كانت "زيارة " القدس تحت الاحتلال حرام أم حلال. لكن منع غونتر غراس من الزيارة يذكر بأن قرار "زيارة القدس " وبقية فلسطين المحتلة ليس قرارا فلسطينيا أو عربيا أو إسلاميا بل هو قرار "إسرائيلي " تتحكم فيه دولة الاحتلال ب "شد الرحال " إلى القدس أو منع شد الرحال العربية والاسلامية اليها.
سوغ الرئيس الفلسطيني تجديد دعوته ب "دعم قضية الشعب الفلسطيني " كما قال، وكاد أن يتحول إلى داعية إسلامي وهو يرد "دينيا " على الرافضين لدعوته "السياسية " هذه بالاستناد إلى أن "زيارة القدس لم تحرم أصلا لا في القرآن ولا في السنة، (بل) بالعكس تماما "، إذ "لم يرد في القرآن أية كلمة تشير الى التحريم، والتحريم يحتاج الى نص "، قبل أن يعود إلى السياسة ليتهم "الإخوة العلماء " الذين أفتوا بحرمة زيارة القدس تحت الاحتلال بأنهم "خلطوا الدين بالدنيا والدين بالسياسة والحزبية بالاسلام ".
إن سوق أسانيد دينية لدعم الدعوة إلى "شد الرحال " إلى القدس وهي تحت الاحتلال يتيح مهربا من الحجج الوطنية والسياسية القوية المعارضة لذلك، غير أن في ذلك لجوء انتقائي إلى الدين الحنيف يتجاهل "النص " في قرآنه الكريم على أكثر من سبعين آية كريمة "تنص " على الجهاد وتنطبق على بيت المقدس وأكنافه وأصبحت تلاوتها تعتبر "تحريضا " لا ينسجم مع نصوص معاهدتي "السلام " واتفاقيات أوسلو "السلمية " المصرية والأردنية والفلسطينية على التوالي.
ولا يختلف مسلمان على "شد الرحال " إلى القدس، فهذا ليس موضوع جدل أو خلاف ديني، لكن دعاة زيارة القدس تحت الاحتلال في دفاعهم عن دعوتهم يصورون المعارضين لها سياسيا كمعارضين لفريضة دينية، مستخدمين بذلك الدين سلاحا سياسيا، وهم أنفسهم الذين يهاجمون الاستشهاد بآيات الجهاد في القرآن الكريم للحث على مقاومة الاحتلال بأنه استخدام سياسي للدين.
وإذا كان "شركاء السلام " هؤلاء ينسجمون مع أنفسهم في الدعوة الى زيارة القدس تحت الاحتلال باعتبارها فاتحة حث على التطبيع "الشعبي " مع دولة الاحتلال بعد أن أنجزوا التطبيع "الرسمي " معها، فإن تسويغ مفتي مصر علي جمعة لزيارته الأخيرة للقدس بأنها كانت "شخصية "، ثم تنصل منظمة التعاون الاسلامي من اتخاذ موقف بالتعلل بأن زيارة القدس هي "قرار سيادي " لكل دولة من دولها الأعضاء السبعة والخمسين، كما قال أمينها العام أكمل الدين احسان أوغلو لصحيفة الشرق الأوسط يوم الثلاثاء الماضي، هما مؤشران واضحان إلى حجم الرفض الشعبي وعمقه.
لكن ما وصفه عباس بأنه "مواجهة ... شديدة وحامية " في هذا الجدل البيزنطي قد أوقع الجميع في ما وصفه أيضا ب "خلط ... الدين بالدنيا والدين بالسياسة والحزبية بالاسلام "، ليقع بدوره في فخ الفصل التعسفي بين ما يعتبر "فريضة شرعية " لشد الرحال إلى القدس بنص صريح السنة النبوية المشرفة وبين الضرورة الوطنية والسياسية التي تحرم شد الرحال إليها وهي تحت الاحتلال.
إن المقال الذي نشره مؤخرا وزير الأوقاف الأردني الأسبق ونائب رئيس اللجنة الملكية الأردنية لإعمار المسجد الأقصى وقبة الصخرة المشرفة منذ ثلاثين عاما، د. رائف نجم، تأييدا لدعوة عباس، يصلح نموذجا ل "الخلط " في هذا الجدل البيزنطي المحتدم، بينما المخطط الصهيوني لتهويد القدس يدخل ربع الساعة الأخير قبل إتمامه، وبينما تستعد دولة الاحتلال لنقل مقرات قياداتها العسكرية والأمنية، مثل القيادة العامة لهيئة الأركان والكلية العسكرية وكلية الأمن القومي، من تل أبيب وحتى من غرب القدس إلى شرقي المدينة المحتلة.
فالدكتور نجم يخلط بين "زيارة النبي (صلى الله عليه وسلم) للمسجد الحرام بعد صلح الحديبية وهو تحت حكم المشركين " وبين زيارتها اليوم تحت الاحتلال، متجاهلا أن "المشركين " لم يحتلوا مكة آنذاك بل كانوا أهلها الذين أعز الله الاسلام بهم بعد أن اهتدوا كما كان يأمل رسول الله، وهو يخلط كذلك عندما يذكر بأن "الخليفة عمر بن الخطاب دخل القدس في زمن حكم البيزنطيين ولم يعترض على هذا الأمر أحد من الصحابه " متناسيا أن الخليفة رضي الله عنه دخلها ليتسلم مفاتيحها من البطريرك صفريانوس، ويخلط أيضا عندما يتساءل "لماذا لا ينتقد المسلمون في العالم أجمع وهم يزورون بلاد أمريكا وأوروبا واليابان وتايلاند وكوريا والهند ... (و) يعد ذلك تطبيعا مع غير المسلمين " ويغيب عنه أن هذه الأقوام والشعوب موجودة في أوطانها ولا تحتل "وقفا إسلاميا " أخرجت منه أهله وشردتهم في كل بقاع الأرض واستوطنته بدلا منهم.
غير أن الخلط عند د. نجم يبلغ حد الشطط السياسي عندما يخلص إلى حث "الأمة العربية، مسلمين ومسيحيين " على "أن لا ينقطعوا عن زيارة القدس " بحجة "أن هذه الزيارة ضد تخطيط الاسرائيليين لتهويد المدينة والقضاء على الهوية العربية " فيها، خصوصا عندما يستشهد بالشيخ رائد صلاح وغيره من "القائمين على مشروع شد الرحال " إلى القدس والأقصى "يوميا " مستهجنا عدم "انتقادهم "، متجاهلا حقيقة أن دولة الاحتلال التي ترحب بالمستجيبين لدعوة عباس التي يؤيدها نجم إنما تستثني من ترحيبها الشيخ صلاح ومثله رئيس الهيئة الاسلامية بالقدس وخطيب المسجد الأقصى الشيخ عكرمة صبري ومثلهما أركان قيادة منظمة التحرير وسلطة الحكم الذاتي التابعة لها، بمن فيهم عباس نفسه، ومثلهم كل المسلمين والمسيحين من عرب فلسطين المحتلة لأن زيارة هؤلاء، وهم جميعا تحت الاحتلال، مثل القدس والأقصى، هي وحدها الكفيلة بالحفاظ على الهوية العربية والاسلامية لبيت المقدس، أما تدفق "الزوار " العرب والمسلمين على القدس ب "تأشيرة دخول إسرائيلية " فإنه تكرار لسابقة مسيحية لم تثمر إلا ندما.
وهنا يفرض سؤال ذاته، فإذا كانت "زيارة " العرب والمسلمين للقدس تحت الاحتلال دعما لها ولأهلها ولقضية شعبها، ألن تكون كذلك أيضا "إقامة " سفاراتهم فيها حسب المنطق ذاته، وهو ما تعارضه القيادة الفلسطينية في رام الله حتى الآن؟
والمفارقة أن عباس بدعوته يخوض "مواجهة شديدة وحامية " مع العرب "مسلمين ومسيحيين " وليس مع دولة الاحتلال، فهذه الدولة تصدر تأشيرات الدخول على الرحب والسعة لكل من يستجيب لدعوة عباس من العرب والمسلمين، لأنها بذلك تسوق ما تدعيه على الموقع الالكتروني لوزارة خارجيتها بأن "إسرائيل تسمح للناس من كل الأديان بالوصول إلى الأماكن المقدسة التي لا تعد ولا تحصى في البلاد " وبأن "القانون الاسرائيلي يصرح للجميع، بغض النظر عن الانتماء الديني، بالحق في زيارة كل الأماكن المقدسة " فيها.
وإذا استجاب العرب والمسلمون لدعوة عباس، يصعب هنا عدم التساؤل عما إذا كانت دولة الاحتلال لن تطلب مستقبلا "المعاملة بالمثل "، من أجل السماح لليهود بزيارة "خيبر " على مشارف الحرمين الشريفين!