العازف المُنْفَرد!!

واضح أن المزاج النفسي والاجتماعي وحتى السياسي الى حدّ ما لا يزال لدينا أقرب الى العزف المنفرد، سواء على الربابة أو العود، ونادراً ما يكون على الجيتار، لهذا فالعزف الجماعي أو السّيمفوني غير مرغوب فيه، لأن عمل الفريق أو أي منجز جماعي تكون البطولة فيه حاصل جمع جهود الأفراد، ولأن الفرد لم يدخل في أي عقد اجتماعي، فهو أشبه بالعشبة البرية، ويحلم بأن تنسب الانتصارات والانجازات اليه، وهذا الفائض في الشعور بالفردية ليس ظاهرة صحية أو دليل عافية نفسية، انه تعويض عن عدة مفقودات لا يجهر الأفراد بها، فهم هاجروا من القبيلة الى الحزب أو النقابة، لكن بالتعاليم ذاتها وبالميراث ذاته أيضاً، وحين يتوهم الفرد أن محور الكون أو أن الشمس تشرق من أجله فقط، فذلك دليل آخر على انكفائه داخل شرنقته والتي قد لا يخرج منها على الاطلاق، أو يموت في طور العذراء اذا صح لنا استعارة هذا المصطلح من علم الأحياء.. وأكثر ما يفتضح انكفاء الفرد واستغراقه النرجسي في ذاته، هو تعامله مع أدبيات وثقافة الحوار، فهو ضحية تداعيات أو ما يسمى المونولوج، بحيث لا يسمع الآخر بقدر ما يتلذذ بسماع صدى صوته، وحين أراقب الحوارات المتلفزة، أجد في أغلب الأحيان أن كل طرف مشغول بما سيقول وليس بما يسمع من الطرف الآخر، لهذا سرعان ما يتحول حوار الطرشان الى صراع ديكة تنتف أعراف وريش بعضها بعيداً عن محور السجال، واذا كان لبعض الكتاب قارىء واحد مُتخيّل أو مرسل اليه - قد يكون مسؤولاً أو رب عمل أو ولي نعمة- فإن للمتحاورين أيضاً مثل هذا، وكأنهم يرددون في داخلهم اياك أعني واسمعي يا جارة، فالمدعو الى مثل هذه الحوارات يحرص على شيء واحد فقط لا صلة له بالقضية المطروحة أو الحقائق، وهو الانطباع لدى من يدافع عن وجهة نظرهم في بلاده وما طلب منه أن يفاضل بين انطباع اعلامي وثقافي نزيه عن أدائه وبين الانطباع الآخر، فهو لن يتردد في اختيار الطرف الآخر، لأن الحقائق في مثل هذه المناخات لا تسمن ولا تغني من جوع!
العازف المنفرد لا يريد من أحد أن يقاسمه التصفيق، وهزّ الرؤوس طرباً بعكس العازف في سيمفونية أو أي جهد جماعي، لهذا يصبح الآخر بالنسبة للعازف المنفرد خصماً حتى لو لم يعلن ذلك.
وهكذا تتحول ديناميات العازفين المنفردين الى رياضيات سلبية وحاسوب متخصص في القسمة والطرح والضرب أحياناً، بعكس ديناميات الفريق التي يتأسس حاسوبها على الجمع والاضافة والاغتناء بالتنوع.. وانعكس هذا المزاج على السياسة بشكل لا يصعب رصده. فما عمق الأسوار والحدود منذ سايكس - بيكو بين الأقطار العربية، هو النزوع للعزف المنفرد والاستفراد بالمنصة والجمهور معاً.
وحين تدرس الأسباب لإخفاق العرب في تحقيق أي مشروع وحدوي قائم على التكامل وليس على التآكل أو التواكل، يغيب هذا السبب التاريخي والنفسي والتربوي في آن واحد.
فما إن يحرر الفرد من شرنقته الخانقة سيبقى العزف المنفرد هو بديل أي عزف جماعي, وبالتالي تتعمق العزلات وتتلاشى القواسم المشتركة كلها! ( الدستور )