ثنائية القلب واللسان!!

علينا أن نأخذ على محمل الجد ما انتهى اليه مؤتمر بيروت حول الاخطار المحدقة باللغة العربية، فالحقائق على ما يبدو أقسى وأشد بأضعاف عن السائد حول أوضاع هذه اللغة، التي قال عنها المستشرق جاك بيرك إنها وحدها الممهورة برسالة كونية.
ما انتهى اليه المؤتمر قبل أقل من شهر، هو أن أساتذة جامعات ومعلمين لا يُجيدون استخدام اللغة التي يدرسون بها، فكيف سيكون الحال بالنسبة لتلاميذهم؟
ما لا يعرفه الكثير من الناس أن هناك آلاف اللغات في طريقها الى الانقراض، وان اللغة التي لا تدافع عن صلاحيتها وضرورتها مهددة بالفناء، لهذا بالرغم مما تحظى به اللغة الفرنسية من انتشار فرانكفوني إلا انها تعقد المؤتمرات تباعاً في باريس لحمايتها وانقاذها من خطر الأفول، وفي عالمنا العربي لم تعد الأبجدية هي اللغة الأم، بل هي أقرب الى زوجة الأب الأولى والمهجورة، فالمطاعم والمقاهي ومعظم مظاهر الحياة تلجأ الآن الى لغات أخرى في مقدمتها الانجليزية، وكأن هذه اللغة أصبحت قاصرة عن التعبير واللحاق بالعصر..
كيف يكون عربيا من يرطن بلغته ويحاول الابتعاد عنها حتى عندما يعبر عن انفعالاته؟؟ لقد تعرضت هذه اللغة منذ قرنين الى عدة استباحات، وثمة من تجاسروا على تحويل حركات الاعراب فيها الى أرقام، إضافة الى من بشروا باستخدام العاميات في الكتابة الأدبية، لكن هذه المحاولات على ما يبدو أخفقت، فلم يبق الا تجريب قتل اللغة في عقر دارها، بحيث يشيح عنها أبناؤها الذين لا يدركون كم هي باهظة، فسماها الشاعر الجرائري مالك حداد ثنائية القلب واللسان، ذلك الرجل الذي لم يكن يعرف اللغة العربية، ورغم اتقانه للفرنسية واصدار كتب ذات شأن كبير بها كان يقول ان اللغة الفرنسية منفاه لأنه لا يستطيع مخاطبة والدته بلغتها.
لقد تعاقبت مؤتمرات في عدة عواصم عربية لتشخيص هذه الظاهرة، وقرع الأجراس حول الخطر المحدق باللغة الأم، لكن الوصفات المتكررة بقيت طي الملفات باستثناءات نادرة ومتعثرة، لعدم اهتمام الدول والمؤسسات العربية الرسمية بالمسألة.
ان انقراض اللغات لم يعد تعبيراً مجازياً لأن هناك لغات انقرضت بالفعل، ولولا ما تزخر به هذه الأبجدية الأشبه بامبراطورية من امكانات تعبير وجوهر حيّ، لما استطاعت ان تبقى، لكن ضمانة بقائها يجب ألا تظل منوطة بها وبقوتها وقرائها فقط.
ونحن نعرف بلداناًَ في العالم قد يتقن أهلها أو بعضهم اكثر من ثلاث أو اربع لغات غير لغتهم الأم.. لكنهم يرفضون الاجابة عن أي سؤال بغير لغتهم، اعتزازاً قومياً وتعبيراً عن تقديرهم النفسي والعاطفي للغتهم، لهذا هناك مثل فرنسي يقول: ما ليس فرنسياً ليس واضحاً أو مفهوماً، وما نخشاه هو أن يقلب هذا المثل في عالمنا العربي بحيث يصبح ما هو عربي غير واضح وغير مفهوم!
يبدو أن هذه المسألة أشد خطورة مما يعتقد من يتعاملون مع كل تاريخهم باستخفاف!
(الدستور)