مزالق ملف العنف

حين يقول أحد المرشحين للرئاسة إن كل الخيارات مفتوحة أمامه لتسجيل اعتراضاته، وحين يقول آخر إن أنصاره مستعدون لتقديم الشهداء في سبيل دفاعهم عن قضيتهم، فكلاهما يلعب بالنار ولم يحسب كل منهما جيدا مآلات كلامه. وحين تتصيد بعض الصحف مثل هذه العبارات وتبرزها بدافع الإثارة أو لفت الأنظار، فإنها تشارك من جانبها في اللعب بالنار، وتخلط بين الإثارة واللامسئولية، ذلك أن الذين يبعثون بمثل تلك الإشارات لن يعدموا متلقيا يتسلم الرسالة وينفعل بها، ثم يعبر عن «تجاوبه» معها بصورة أو أخرى.
لقد استوقفتني تلك التصريحات التي تحدث بها بعض المرشحين عن «كل الخيارات» و«الاستشهاد» والذهاب إلى «آخر المدى»، وتمنيت أن يضيف الواحد منهم إلى كلامه أية إشارة إلى أن مثل تلك الأصداء التي يلوح بها ستتم في «حدود القانون»، لكن ذلك لم يحدث للأسف. وأرجو ألا يكون السبب في ذلك هو قلة الخبرة السياسية وحداثة العهد بالديمقراطية وغياب الثقافة القانونية.
وإذا جاز لنا أن نعذر المرشحين في تلويحاتهم ونعتبرها سقطات وقعوا فيها تحت تأثير الانفعال أو الحماس، فإننا لا نستطيع أن نعذر وسائل الإعلام التي تتعمد إبراز تلك التلويحات لاستدعاء فكرة العنف إلى الذاكرة وتخويف الناس من احتمالاتها، وليت الأمر يقف عند ذلك الحد، الذى قد تكون الإثارة هدفا له، لأن بعض المحررين المعبئين بفكرة «الفزاعة» يسارعون إلى تأويل الأخبار وليِّها لكي تصب في ذات الوعاء.
خذ مثلا الخبر الذي نشر يوم الجمعة 4/5 تحت عنوان يقول «شبح الجماعات الجهادية يخيم على العباسية»، وفي نصه ما يلي: أثار احتفاء الشباب السلفي في ميدان العباسية بالشيخين محمد الظواهري، الشقيق الأكبر لأيمن الظواهري (القيادي في تنظيم القاعدة) ومصطفى مرجان أحد قيادات تنظيم الجهاد بصحبة الداعية السلفي محمد حسين يعقوب وترديد المتظاهرين شعارات جهادية، مخاوف البعض من العودة إلى مسلسل العنف والعنف المضاد بين المجموعات الجهادية والدولة. لا سيما بعد ذبح شاب سلفي خلال اشتباكات العباسية على يد مجهولين، وكانت مسيرة تضم العشرات من المعتصمين، يتقدمها ملثمون «بغطاء أسود على الوجه»، رفعوا أعلاما سوداء، قد طافت بمحيط وزارة الدفاع، وقد تقدمها الشيخ محمد الظواهري الذي خاطب المعتصمين قائلا: جئنا لتطبيق شرع الله وإسقاط العسكر.
ما يمكن أن يوصف بأنه «خبر» في الكلام أن المهندس محمد الظواهري وقيادي آخر في تنظيم الجهاد (سابقا) ظهرا في ميدان العباسية ومعهما أحد الدعاة السلفيين، وأن أحد السلفيين ذبح خلال اشتباكات العباسية على يد مجهولين، وبقية الكلام كله مجرد تأويل وتزيُّد يتحدث عن احتمالات عودة العنف والعنف المضاد إلى الساحة. وكأن الفكرة مطروحة بالفعل واحتمالاتها واردة. حيث لا يريد البعض أن يصدقوا أن الفكرة تم تجاوزها بعد المراجعات التي تمت في أوساط الجماعة الإسلامية بوجه أخص، وفي ضوء الخبرات والدروس التي حصَّلتها العناصر الجهادية خلال ربع القرن الأخير.
إن ما يستحق الانتباه وما ينبغي التحذير منه ليس شبح الجماعات الجهادية وإنما عنف أجهزة السلطة بأذرعها المختلفة، ولا أستثني منها «البلطجية» الذين لا يختلفون كثيرا عن «شبيحة» النظام السوري. ذلك أن عنف الجماعات الجهادية صار تاريخا وفي أتعس فروضه هو احتمال قد يلوح في الأفق البعيد، أما عنف أجهزة السلطة وأذرعها فهو ماثل تحت أعيننا، وضحاياه يمشون بيننا، ودماء الشهداء منهم لا تزال رطبة لم تجف بعد في العديد من الشوارع والميادين.
إذا قال قائل بأن العنف يولد العنف، فلن أختلف معه. لكني أدعو إلى الانتباه إلى أهمية التمييز بين الفعل ورد الفعل. صحيح أن إدانة الاثنين واجبة، إلا أن نصيب مرتكب الفعل من الإدانة ينبغي أن يكون أوفر، خصوصا إذا كانت السلطة مصدرا له. ذلك أن عنف السلطة يوجه رسالة سلبية إلى المجتمع تدعوه إلى تمثل ذلك الأسلوب واحتذائه. إذ حين تزرع من جانبها شوكا فلا ينبغي أن تتوقع أن تجني بعد ذلك وردا وياسمينا.
فتنة العنف نائمة يا سادة، لعن الله من أيقظها. لذلك فإن الجميع مطالبون بالتعامل مع ذلك الملف الشائك بقدر أكبر من المسئولية والنزاهة، خصوصا من جانب السياسيين والإعلاميين. أما عنف السلطة فيبدو أن معركتنا معه طويلة بطول معركتنا مع بقايا نظام مبارك، لتأسيس النظام الجديد الذي يتوافر فيه للناس حقهم في الحرية والكرامة.(السبيل)