غياب المعايير

كتبْتُ غيْرَ مرّة - بكلّ أسىً وأسف - عن غياب النقد عندنا; النقد الموْضوعيّ البنّاء في شتّى مناحي الحياة. فنحن, مثلاً, لا نعرف قاماتِنا الحقّة; وإنْ عرفناها, فإنّنا لا نعرف بالضبط ما الذي جعلها قاماتٍ عالية. ونحن نلمّعُ بعضَهم أكثرَ ممّا يجب; كما نُقزّمُ بعضَهم الآخر من دون وَجْه حقّ. ونخالُ الإعلامَ حكمًا! والانطباعات تسود والهوى يَرين حيث يجب أنْ تكونَ اليدُ العُليا للتحليل والمنطق والموْضوعيّة.
أتساءل: لِمَ تُتقنُ أممٌ أخرى هذه الأمور أكثرَ منّا بكثير? أهو النّضجُ الحضاريّ? أم إدارة الحكم الرشيد, بكلّ ما يَعنيه ذلك من قوانينَ وأنظمةٍ وأسُس ومعاييرَ وقِيَمٍ وأخلاقيّاتٍ ومؤسّسات? أم ماذا?
لقد أقمْتُ في إنجلترا عُمراً إبّان فَتْرتي التكوينيّة. كما أقمْتُ مدّةً طويلةً نوْعاً في الولايات المتحدة وغيْرها. وكمْ كنْتُ أغبطُ القوم حين يُعيّنون أو يَنتخبون مجالسَ أو مسؤولين أو حتّى رؤساء! وأيّ أخطاء في هذا الشأن تُصوّبُها منظومةُ الحكم نفسُها. أمّا عندنا, فسرعان ما يختلط الحابل بالنّابل; سواء على صعيد انتخابٍ أو تعيينٍ أو إصدارِ أيّ حُكم!
وأكتبُ الآن عن الوَجْه الآخر للعُملة نفسها; أي غياب المعايير في كلّ الميادين. فكيف نختارُ أو نُعيّنُ أو ننتخبُ المسؤولين في مؤسّساتنا (جامعاتنا, أو حكوماتنا, أو هيئاتنا المستقلّة, أو مجالسنا, ...)? ما هي المعاييرُ المعلَنةُ والمُضْمَرة? وإذا شُكّلتْ "لَجْنَةُ استقصاء" للبحث عن الشخص الأنسب, هل نختارُ أعضاءها حَسْبَ معاييرَ صارمة? أم هي الأسماء نفسها نتداولها المرّة تلو المرّة حتّى الجمودِ والرّكود; وكأنّهم هم وَحْدَهم في طول البلاد وعرْضها?
وماذا عن المواهب والكفاءات المطمورة? كيف نَكشفُ عنها ونَعجمُ عودَها من دون معاييرَ ناصعة? وكيف نُزيلُ الغبارَ عن وُجُوهِها النّضرة من دون التجرّدِ من الأهواء?
أين معاييرُنا المعتَمدةُ في كلّ قطاع? ما العمل? أين "الفكر العمليّ" الذي من شأنه أن يَنبريَ لمثل هذه الأسئلة?
قد نبدأ بالتجريب في مؤسّسة ما, مستفيدين من إرْثِ الإنسانيّةِ في كلّ مكان; على أمل أنْ نعثرَ على النموذج الذي يُحتذى. ومن ثمّ قد تمسّ العدوى مؤسّساتٍ أخرى. لعلّ وعسى!
وتبقى المعاييُر الصارمة في مجتمع الكفاءة جُزءاً من منظومةِ القِيَمِ والأخلاقِ والأخلاقيّات. ( العرب اليوم )