«عنزة ولو طارت»

تذكرت هذا المثل الشعبي أكثر من مرة خلال الأيام القليلة الفائتة التي أعقبت تفجير دمشق المزدوج...تقرأ لكُتّاب النظام والناطقين باسمه فتلحظ محاولة يائسة لإلباس المعارضة السورية، كل المعارضات السورية، وكل خصوم دمشق الإقليميين والدوليين، وزر مئات القتلى والجرحى الذين أزهقت أرواحم بدم بارد وعقل إجرامي أسود، مع أن القاصي والداني، يدرك تمام الإدراك، أن لا المعارضة ولا معظم حلفائها (أقول معظم ولا أقول جميع)، متورطٌ من قريب أو بعيد بهذه الفعلة الإرهابية الشنعاء...بل وأحسب أن المعارضة، أكثر من النظام، متضررة أشد الضرر، جراء هذا النمط من الأعمال الإرهابية...تقول وأنت تتجرّع كأس هذه التحليلات السقيمة: عنزة ولو طارت.
في المقابل، أمطرنا ناطقون باسم المعارضة، خصوصاً في المجلس الوطني السوري والجيش الحر وبعض الشخصيات والمجاميع الأقل شأنا في الخارج، بوابل من التأكيدات التي تذهب جميعها باتجاه إدانة النظام وتجريمه وتحميله مسؤولية التفجيرات الإرهابية...ويجهد هؤلاء في الإتيان بالأدلة والبراهين «الدامغة» التي تؤكد تورط النظام في هذه العمليات، من وثائق ويكيليكس إلى قوائم القتلى الذي يُقسم معارضون أغلظ الأيمان (كذباً) أن أكثر من نصفها على الأقل، من معتقلين في سجون النظام، جاؤوا بهم من زنازنيهم، ووضعوهم لقمة صائغة للشظايا والمواد المتفجرة....تقول وأنت تكاد تفقد صبرك لفرط سذاجة هذه التحليلات والإدعاءات والإتهامات: عنزة ولو طارت.
لكأن فريقي الصراع المحتدم في سوريا وعليها، يريدان أن يتخذا من تفجيرات دمشق، وما سبقها وما سيلحقها، وسيلة لكسب التعاطف والتأييد وحشد الأنصار والمريدين...النظام يريد أن يقنع العالم بأنه في موقع الضحية وليس في موقع الجلاد...والمعارضة تستعجل التدخل والحسم الدوليين، وتريد أن تذهب إلى أبعد مدى في شيطنة النظام، وإقناع العالم بأنه هو الإرهاب بعينه، الذي يتهدد سوريا والعالم بأسره...كلا الفريقين أخفق أيما إخفاق في الأيام الفائتة...كلتا الروايتين بدت بائسة، مُسفّة ومؤسفة.
ثمة لاعب جديد دخل على خط الأزمة السورية، وهو يأخذ مساحة متزايدة على ساحة الصراع فيها وعليها، مستفيداً من غفلة الإطراف، وغرقهم في «حالة الإنكار»....وهو في الحقيقة لم يدخل إلى سوريا خلسةً أو بمحض الصدفة، دخلها من بوابة الإفتاء الجهادي على أوسع نطاق، وسرّع في غزوه لها بعد الظهور التحريضي الواضح لأيمن الظواهري....وهو لا يخجل من عملياته، بل يعلن عنها جهارَ نهارَ...يشرعنها ويجد لها باستمرار «الغطاء والمبرر الدينيين» المناسبين...لقد أعلنوا مسؤوليتهم عن كل ما قارفوه حتى الآن، بما في ذلك تفجيرات دمشق المزدوجة...النظام يُجرم بحق شعبه إن هو استمر في إقامة التماثل بين المعارضة والحراكات والتنسيقيات من جهة والقاعدة وأخواتها من جهة ثانية...والمعارضة تخطئ بحق نفسها وشعبها، إن هي استمرت في «حالة الإنكار» هذه، فيما البلاد تغرق في أوحال العنف المذهبي والطائفي والإرهاب والانقسام والتقسيم...والضحية في جميع الأحوال، هو الشعب السوري وتطلعه للحرية والكرامة.
قبل أيام، نقلت وكالة يونايتد برس إنترناشنال عن سكان قرية قسطل البرج في ريف حماة، أن مسلحين تكفيرين دخلوا القرية وطلبوا من سكانها المسيحيين مغادرتها من دون متاعهم، حيث قاموا بإحتلال مساكن القرية وحوّلوا كنيستها إلى مقر عسكري لهم...هؤلاء المسلحون ينتمون إلى ذات الفصيلة والمدرسة التي تخرّج فيها منفذو عملية دمشق المزدوجة...يستطيع النظام أن يتهم المعارضة، كل المعارضة بأنها وراء هذه الفعلة النكراء...وتستطيع المعارضة أن تتهم شبيحة النظام بأنهم من فعل ذلك...الخلاصة أن «اللاعب الثالث» يشق طريقه على الأرض، ويفرض أجندته على الثورة والحراك في سوريا، ويقرر من جانب واحد، وجهة سير الأحداث وإتجاه تصاعدها، فيما الأطراف الرئيسة في الصراع، تتلهى في تبادل الاتهامات والتنصل من المسؤولية.
ما جرى في حي القزاز الدمشقي، وفي قرية «قسطل البرج» الراقدة على تخوم سهل الغاب الكبير، يذكّر تماماً بفصول من المشهد العراقي إبان احتدام الحرب الأهلية في العراق، أعوام 2005 – 2007، سوريا دخلت في النفق ولم تعد تقف على عتباته...سورية دخلت في حالة الفوضى والفلتان...سوريا استقرت في قعر الزجاجة وهيهات أن تنجح في الخروج من عنقها الضيّق. ( الدستور )