الأعداء لا يريدون حلا في سوريَّة

تماماً, مثلما حدث مع بعثة الجامعة العربيَّة, يحدث الآن مع مبعوثي هيئة الأمم المتَّحدة. فالأولى, طالبت بها الدول المتنفِّذة في الجامعة العربيَّة بإلحاح; لكن, ما إنْ وافقت سوريَّة عليها وشرعتْ باستقبال أعضائها, حتَّى بدأ الذين كانوا يلحّون في طلبها, والذين اختاروا فريقها, بالتشكيك بإمكانيَّة نجاحها; ثمَّ بدأوا يشنّون هجوماً مركّزاً عليها وعلى عملها. وعندما قدَّمتْ البعثة تقريرها المشترك بشأن الوضع الذي عاينته, لم ينظروا فيه, بل أوقفوا هذه العمليَّة برمّتها قبل أنْ تكتمل, وسلَّموا زمام الأزمة السوريَّة لهيئة الأمم المتَّحدة بالكامل; الأمر الذي توقّعنا, في حينه, أنْ يؤدِّي إلى تصعيدٍ خطيرٍ للعنف, وأنْ تسيل بسببه دماء سوريَّة كثيرة. وهذا ما حدث بالفعل.
ثمَّ جاءت مهمَّة عنان, بعد ذلك, بناءً على طلبٍ ملحٍّ من الأطراف الدوليَّة, نفسها, الداعمة للعنف في سوريَّة, في محاولةٍ منها لكسب بعض الوقت ريثما تتمكَّن مِنْ إعادة ترتيب أوراقها وأدوارها بعد فشل خططها السابقة وترتيباتها. وافق السوريّون على هذه المهمّة, أيضاً, وقدَّموا التسهيلات المطلوبة لإنجاحها; كما نفَّذوا الخطوات المترتِّبة عليهم في إطارها. في حين لم تلتزم الأطراف الأخرى بأيّ بندٍ مِنْ بنودها, واستمرَّتْ في ممارسة العنف ودعمه, والتشكيك بإمكانيَّة نجاح هذه المهمّة وجدواها; وذلك قبل أنْ يقوم المبعوث الدوليّ باستكشاف إمكانيَّات تنفيذها وآفاق نجاحها. ثمَّ ارتأوا أنَّه يجب تعزيز مهمّة عنان بمراقبين دوليين, ووافق السوريّون على ذلك أيضاً, واستقبلوا المراقبين الدوليين, وساعدوهم على التنقّل في مختلف أنحاء سوريَّة ليفحصوا بأنفسهم الأوضاع كما هي فعلاً على الأرض. وأيضاً تمّ التشكيك بهؤلاء المبعوثين منذ البداية, بل جرت أكثر مِنْ محاولة للاعتداء عليهم وإعاقة عملهم, من الأطراف نفسها التي كانت تطالب بوجود شهود محايدين.
معروف, طبعاً, أنَّ عنان ليس محايداً; بل هو محسوب على الأمريكيين وحلفائهم, وأنَّه عمل دائماً لخدمة مخطَّطاتهم والتعبير عن مصالحهم; وبالتالي, فهو أقرب إلى المعارضة المحسوبة على الأطلسيّ وأتباعه, منه إلى النظام السوريّ المطلوب ضربه مِنْ هؤلاء وإسقاطه. لكن, يبدو أنَّ هؤلاء لا يريدون أيَّ نوعٍ من الشهود على ما يجري فعلاً في سوريَّة.. حتَّى إنْ كان هؤلاء الشهود محسوبين عليهم. لأنَّ صورة الوضع المأساويّ على تلك الأرض العربيَّة المنكوبة أصبحت أوضح مِنْ أنْ يتمّ إنكارها أو تجاهلها.. حتَّى مِنْ شهود منحازين.
فثمَّة أطراف تتحدَّث علناً عن دعم المسلَّحين بالسلاح والمال وكلّ ما يلزم لإدامة العنف; وثمَّة عمليَّات تهريب للسلاح أصبحت مكشوفة وجرى الحديث عنها رسميّاً في الأردن (تصريحات مدير الأمن العامّ, الفريق حسين المجاليّ, على سبيل المثال), وفي لبنان (تصريحات وزير الخارجيَّة ومسؤولين آخرين). وهذا عدا عن السفينة المحمَّلة بكمِّيَّات كبيرة من الأسلحة الفتَّاكة المتطوِّرة التي تمَّ وضع اليد عليها مؤخّراً في لبنان; وتبيَّن, بعد ذلك, أنَّ حمولة أكثر مِنْ سفينة قد مُرِّرتْ إلى سوريَّة قبل هذه.
وقبل ذلك وبعده, ثمَّة تقارير كثيرة نشرتها الصحافة الأجنبيَّة في وقتٍ مبكِّر من الأحداث (نُشِرَتْ ترجماتٌ لبعضها في الصحافة الأردنيَّة), كشفتْ أنَّه تمَّ تدريب الكثير من المسلَّحين على أيديّ المخابرات الفرنسيَّة والأمريكيَّة في بعض المناطق اللبنانيَّة, وأنَّه جرى تسريبهم قبل اندلاع الأحداث إلى سوريَّة.
ومن الواضح, الآن, أنَّ آخر ما يريده الأطلسيّون وأتباعهم هو إصلاح النظام السوريّ بما يفضي إلى الديمقراطيَّة; فهدفهم القديم الجديد, الذي يواصلون التمسّك به, هو تدمير سوريَّة, نفسها, كبلد وشعب; وتقسيمها, وإنهاء دورها, ووضع أشلائها في دائرة التبعيَّة للإمبرياليَّة والصهيونيَّة.. لتصبح مثلها مثل معظم الدول العربيَّة. لذلك, يتعذّر الوصول إلى حلّ حقيقيّ, حتَّى الآن. وما يُطرح مِنْ مبادرات دوليَّة لم يتعدَّ, بعد, حدود التكيّف الوقائيّ مع تعثّر تنفيذ مخطَّطات الأعداء على الأرض وانحسار زخم أدواتهم. ( العرب اليوم )