رئيس الرؤساء!!

الثقافة التي أجازت تعابير من طراز فيلسوف الفلاسفة وشاعر الشعراء وحكيم الحكماء، لا بد أن تفرز من صلبها عبارة رئيس الرؤساء، ومن يصغي الى ما يقوله مرشحو الرئاسة في مصر، يجد أنهم جميعاً متأكدون من الفوز، وكأن هناك عشر جمهوريات بانتظارهم وليس جمهورية واحدة. لهذا، فإن من سيفوز أخيراً سيكون بهذا المقياس وهذا المنطق رئيس الرؤساء. ولأن التجربة من ألفها الى يائها جديدة، فهي تشكو بالضرورة من بعض التعثر، إذ لا بد من مرور بعض الوقت لتأهيل الناس والثقافة السائدة لمثل هذا التداول الذي كان محظوراً للسلطة في أزمنة الاحتكار والاحتقار معاً، فإصرار رئيس ما على البقاء على قيد السلطة الى الأبد به استخفاف بالغ بكل فرد من أفراد شعبه، لأنه من حيث يدري أو لا يدري يشكك في كفاءات الناس جميعاً ويرى أن العناية السماوية التفتت اليه وحده لاختياره دون باقي العباد رئيساً مدى الحياة.. أو ما بعد الحياة؛ ففلسفة توريث الرئاسة هي في نهاية المطاف عبور واختراق للموت، لأن القادم هو الامتداد الاضافي لسابقه.
عبارات من طراز فيلسوف الفلاسفة وشاعر الشعراء وحكيم الحكماء تفتضح ثقافة تنصاع لمفهوم الزعيم الأوحد. وبالمناسبة أذكر أن الصديق الراحل نجيب المانع والذي عمل مترجماً في وزارة الدفاع العراقية لبعض الوقت في مرحلة عبدالكريم قاسم، كان كما قال يواجه صعوبة في ترجمة عبارة الزعيم الأوحد لم يواجهها حتى وهو يترجم رواية الزمن المفقود لمارسيل بروست والتي تتألف من عدة أجزاء.
قد لا يتسع رأس الهرم لأكثر من رجل أو امرأة، سواء كان فرعوناً أو كليوباترا أو حتسشبوت وهما من ملكات مصر، لكن سفوح الهرم تتسع للكثيرين والقليل منهم من يرضى بالبقاء على السفح، ما دام اللعاب يسيل نحو القمم.
وتلك غريزة بشرية، لكن الحضارة والخبرة دجنتاها وحولتا الانسان الى كائن اجتماعي كما يقول ابن خلدون، لهذا فلا بد من التنازل عن نزعة الامتلاك والاستحواذ كي يكون هناك مجال للشراكة خصوصاً في ما يتعلق بالأوطان.
ولا ندري كم من الحراك والوقت سوف يمضي قبل أن نصل الى تلك اللحظة التي تقلّ فيها مساحة الإثرة لصالح القليل من الايثار، فالسّائد التربوي والثقافي يرى في الآخر حتى لو كان توأماً، تهديداً حتى للقمة التي في فمه، ومفاهيم من طراز الزعيم الأوحد سواء تعلق الأمر بالسياسة أو الثقافة هي من إفراز عهود رعوية وشبه رعوية، ومتعلقة أيضاً بأنماط انتاج اقتصادية وأعراف اجتماعية لا تملك صفة الخلود والأبدية.
والغرب الذي يزعم الآن أنه يشكو من فائض الديمقراطية والتمدن والليبرالية مرّ بمراحل كان الناس العاديون فيها ممنوعين من حق الانتخاب، لكن ما طور الاستحقاق لدى الشعوب هو عوامل موضوعية ذات صلة بالاقتصاد وأنماط الانتاج والثقافة التي أطلقت الوعي من سجونه!.