القدس: رسائل متلاحقة ومتناقضة

أحيت إسرائيل أمس ما تسميه "ذكرى توحيد القدس"؛ أي ضم القدس الشرقية بعد حرب حزيران 1967 حسب التقويم اليهودي. بينما أكد استعراض الإرادات الذي حشد له في هذا اليوم عمق وجوهر الصراع، وسط رسائل متناقضة من الطرفين، وحالة فراغ سياسي غير مسبوقة.

قبل أسابيع، كانت القدس موضع اهتمام إعلامي واسع، في تفسير موجة الزيارات العربية للمدينة المقدسة، والتي قام بها مسؤولون وشخصيات عامة أردنية ومصرية، وعلى رأسهم مفتي الديار المصرية الشيخ علي جمعة، حيث تمت الزيارات بتنسيق وترتيب مع السلطات الإسرائيلية. وعشية احتفال الإسرائيليين بـ"يوم القدس"، جدد رئيس السلطة الفلسطينية دعوته العرب والمسلمين لزيارة القدس والأماكن المقدسة فيها.

وبعد الجدل الذي احتدم سريعاً وانطفأ سريعاً حول الواجب الديني وشبهة التطبيع في هذه الزيارات؛ والذي غلبت عليه القراءات الشرعية أكثر من الدلالات السياسية، تأتي احتفالات إسرائيل بضم القدس الشرقية هذا العام لتؤكد معاني سياسية خطيرة، تتجاوز التطبيع والاجتهادات الدينية. إذ أعلنت إسرائيل هذه المرة عن عزمها تنفيذ خطة إعادة هيكلة القدس وما تسميه إعادة التوازن السكاني فيها، ورصدت لذلك نحو 400 مليون شيكل في اجتماع عقده مجلس الوزراء الإسرائيلي على إحدى التلال ذات الدلالة الرمزية العسكرية والدينية لديهم.

خلال 45 عاماً من الاحتلال، زاد تمثيل اليهود في القدس، ووصلت نسبتهم إلى 67 % مقابل 33 % للعرب. وخطة الهيكلة الإسرائيلية تهدف إلى أن تصل نسبة اليهود إلى 70 % من سكان المدينة، إلى جانب احتكار المكانة الدينية والممارسات العقائدية باليهودية. ومنهج تهويد القدس قائم بالفعل، إذ لا يمكن لأبناء المدينة والقرى المجاورة لها الصلاة في المسجد الأقصى في معظم الأوقات، هذا في الوقت الذي يتراجع فيه عدد الفلسطينيين، وتحديداً المسيحيين، فقد شهدت المدينة موجات صامتة من الهجرة، وهذه أهم الرسائل المسكوت عنها.

وسط الفراغ السياسي وانغلاق الأفق منذ سنوات طويلة، تتواصل عملية تغيير الوقائع على الأرض، بينما عجزت الأنظمة العربية عن توظيف جانب من عوائد ثرواتها ليس في تثبيت الفلسطينيين في المدينة، بل وفي حماية وجهها العربي ودعم المقاومة المدنية.

القدس بحاجة إلى مقاومة مدنية تبدع وسائلها السلمية في الاحتجاج، وتملك القدرة على إيصال صوتها للعالم، باستخدام كل تقنيات التأثير على المصالح والعواطف. هذه المعركة الحقيقية التي لم نخضها.

ما الصعوبة في انتزاع إعلان عالمي بأن القدس عاصمة للتراث والثقافة الإنسانيين، إذ دخلت مدينة القدس منذ العام 1982 في القائمة العالمية لمواقع التراث الإنساني التي تشرف عليها منظمة اليونسكو، وعُدّت بين المواقع المهددة بالخطر؟ ما الصعوبة في أن يطلق الآثاريون العرب والمسلمون في أكثر من 60 دولة في العالم "تحالفا عالميا لحماية التراث الإنساني في القدس" يمتد ليشمل بقية دول العالم؟

تصوروا كم غنينا للقدس، وكتبنا من الشعر عنها، ولا يوجد موقع على شبكة الإنترنت متخصص، وباللغات الغربية، يقدم الرؤية العربية والإسلامية حول القدس! تصوروا أنه لا توجد مراكز علمية حقيقية لدراسات القدس تصدر تقارير دورية حولها، ولا مؤسسات سوى مؤسسة القدس الدولية التي تأسست مؤخرا بدعم سوري إيراني، ولم نر بعد خيرها ولا شرها. وما الصعوبة في إعلان مائة جامعة عربية عن مشروع لألف بحث حول القدس، تنشر باللغات الغربية؟ هذه الرسائل الحقيقية التي تحتاجها القدس، وهذا جانب من المقاومة المدنية التي تحدث الفرق حينما يجد الجد.
( الغد )