يمكن عمل اشياء كثيرة غير الرواتب

الإعلان عن تخفيض رواتب الوزراء وكبار الضباط، وربما النواب وغيرهم من المسؤولين، ليس هو المطلوب. فرغم ما في ذلك من بادرة ونية حسنة وتضامن (ربما)، لكن هذه المبادرات الرمزية والإعلامية لا تحلّ الأزمة.
فرواتب الوزراء والنواب والأعيان والمديرين والأمناء العامين وكبار الضباط معقولة، وربما يستحقون أكثر.. ولكن لننظر فيما يمكن أن يساعدنا فيه الوزراء وكبار الموظفين، وما يمكن أن يخفض الإنفاق وينشئ جوا من الثقة وبيئة إيجابية تحسن العمل والإنتاج وتقلل الهدر والتكاليف..
والأهم من ذلك كلّه تخفيف الاحتقان وموجة الاحتجاج السلبية والعنيفة جدا لدى الطبقات الوسطى من الموظفين والعاملين في القطاع الخاص، وأصحاب المهن والأعمال الصغيرة والمتوسطة، والتي تكاد تكون ثورة صامتة، لكنها تعطل معظم الأعمال والإنجازات، وتهدر معظم الخدمات والمرافق والموارد. فهؤلاء الموظفون الذين يمتنعون عن أداء أعمالهم بشكل يبدو إهمالا وتقصيرا، إنما يمارسون إضرابا من نوع آخر. صحيح أن ثمة أمثلة كثيرة جدا على أنها ممارسات مجتمعية فاسدة، ولكنه سلوك مجتمعي يزداد اتساعا، ويجد لنفسه مبررات أخلاقية، وهذا أسوأ ما في الإضراب عن العمل الفعلي والمشهود في المؤسسات.
يستطيع المسؤولون دون أن يخفضوا رواتبهم أن يرشدوا استهلاك الوقود في سياراتهم وسيارات عائلاتهم، وأيضا لأجل العمل الرسمي. ويمكن اختصار عدد كبير من السيارات والوظائف والأسفار والمياومات والأعمال الإضافية التي لا لزوم لها، والمجالات التي ينفق فيها وتستنزف الموارد العامة أضعاف الرواتب، وتمنح الوزراء وكبار الموظفين مزايا وموارد وخدمات منظورة وغير منظورة، والأسوأ من ذلك أنها تنشئ فجوة اجتماعية وشعورا بالظلم والغبن لدى بقية الناس.
لشديد الأسف (الأسف لأسباب شخصية ومهنية تتعلق بنا نحن الإعلاميين)، فإن الحلول الإعلامية لا تفيد في شيء، ولم تعد حتى مجدية في تغيير قناعة الناس واستقطاب ثقتهم، بل إنها تدعو إلى السخرية، لأنه وببساطة لم يعد الواقع يُفهم من الإعلام، والمقولة العتيقة التي كانت مقدسة في الإدارة والقيادة بأن ما ليس موجودا في الإعلام ليس موجودا في الواقع، وأن الواقع هو كما في الإعلام؛ هي قاعدة قد انهارت ولم تعد تصلح، لأن الإعلام أصبح مشاعا خارج السيطرة، والناس تتداول وتستهلك المعلومات والآراء في مواقع التواصل الاجتماعي أكثر من الصحف والمحطات التلفزيونية، وما كان يسمى الإعلام البديل أصبح أكثر تأثيرا وفاعلية من الإعلام التقليدي (مطبوع والكتروني وتلفزيوني وإذاعي)، وأصبح المواطنون في كل البلاد تقريبا أمما من الإعلاميين. ولكن الكارثة العظمى إذا كانت النخب تعتقد عن جدّ بأنها تشارك في التضامن مع المواطنين!
( الغد )