الصبر السياسي والاجتماعي

لم يتابع الأردنيون عامة نقاشات منح الثقة للحكومة، ولا التصويت على هذه الثقة، من قبل مجلس النواب، مثلما اهتموا بمجريات الانتخابات الرئاسية المصرية، وبتحليل نتائجها المتوقعة، والتمتع بالممارسة الديمقراطية الهادئة والراقية التي شهدتها مصر. فما كان يسمى ماراثون النقاشات الحادة، وجردة الحساب التي يقدمها النواب وسط أجواء محاكمة مسبقة للحكومة، أصبحا باهتين وبدون لون، ولا يعنيان ما يستحق الذكر لدى النخب والعامة، وهما مجرد تحصيل حاصل، إن لم يأتيا بالمزيد من الشعور بالإحباط والنقمة.
في علم نفس الجماهير والجماعات، يذهب الناس بشكل جماعي، في مرحلة من مراحل القنوط واليأس، إلى الهروب الجماعي المؤقت من مواجهة المصير، ويرفضون الاشتباك مع الوقائع. وأهم أشكال هذا الهروب المؤقت يبدو في الانسحاب من الاهتمام بالشأن العام، والشعور بالغربة عن الوقائع المحيطة والتطورات القريبة. لا يتوقف ذلك لدينا على مناقشات الثقة الباهتة التي لم يلتفت إليها الناس، بل أصبح ظاهرة منتشرة، تبدو واضحة اليوم في الطريقة التي بات الرأي العام يتعامل بها مع مصير قانون الانتخاب الذي يحتل مكانة الصدارة في مشروع الإصلاح السياسي، والطريقة التي مرر بها قانون الأحزاب. وربما تكون هذه الظاهرة مريحة للنخب الرسمية، وتمنحها الشعور بالثقة وبعبور الطوارئ السياسية والاجتماعية، بل ونهاية مبكرة للربيع الأردني. إلا أنها حتما قراءة خاطئة للصبر السياسي والاجتماعي الذي يوصف به المجتمع، وعدم إدراك لخصائصه ومساراته.
لم يأخذ الناس ظاهرة الخمسة عشر بالمائة، أي الحسومات التي أعلنتها نخب قيادية في بعض المؤسسات لصالح الخزينة العامة أو لصالح صندوق المحافظات، بجدية واهتمام، واعتبروا أن لا قيمة لها مع حجم الفساد والهدر الذي شهدته البلاد. الناس يستطيعون التمييز جيدا بين الإرادة الجادة في إحداث الفرق، وبين شغل الدعاية وتصنيع المواقف السياسية. وهذا واضح تماما في الردود الإيجابية التي أعلت من الخطوة الأخرى التي اتخذتها المؤسسات العسكرية بوقف بعض مشاريعها الإنشائية التي توفر للخزينة نحو 150 مليون دينار.
المشهد الاجتماعي العريض قد لا يبدو معنيا بتفاصيل عجز الموازنات، والفجوة التمويلية الهائلة، والمديونية المتنامية، ومصادر الخوف على الدينار، ولا كل المبررات التي تسوّق حينما يأتي الحديث عن قرارات اقتصادية صعبة في بيئة سياسية لم تصل إلى الحد الأدنى من العافية. هذه القراءة قد تكون صادقة في بعض المراحل، لكن الصبر السياسي والاجتماعي الطويل أدخل الناس إلى التفاصيل، واليوم تشير المناقشات العامة إلي تحولات جوهرية في طريقها إلى النضوج.
الصبر السياسي الطويل يدخل العامة إلى العمق، وتصبح التفاصيل في صلب الأولويات، ما يغير مضامين الوعي الاجتماعي.
وفي هذه اللحظة، أي حينما تصل العامة إلى التفاصيل، تتغير حتما قواعد اللعبة، ولا يعود بالإمكان تمرير التصنيع السياسي للنخب والمواقف، ولا قبول مبررات للأزمة الاقتصادية الاجتماعية، ولا إعادة إنتاج الوظائف التقليدية للدولة في العلاقة مع الإقليم والعالم في المجالات السياسية والاستراتيجية.
جانب مشرق في حالة الصبر السياسي في النموذج الأردني هو أن مصدر هذا الصبر هو الالتزام بفكرة الدولة، واستعداد الذين بنوا الدولة للمزيد من التضحية من أجلها إلى حين. هنا يبدو الصبر السياسي مصدرا للنعمة السياسية، وأساسا متينا للإصلاح، فيما سيتحول إلى نقمة إذا ما تم الإمعان في القراءة الخاطئة لهذا الصبر التي يروج لها في هذا الوقت. ( الغد )