«الحولة» و«التحوّل» في الأزمة السورية؟!

وضعت المجزرة المروّعة في بلدة “الحولة” الأزمة السورية برمتها أمام منعطف جديد...ما بعد “الحولة” لن يكون كما قبلها...فالبلاد دخلت مرحلة الفوضى والحرب الأهلية، رسمياً منذ “الحولة”...ومواقف الأطراف، كل الأطراف، في الداخل والخارج لن تظل على حالها.
في الحديث عن المجزرة ثمة التباسات لا بد من إجلائها...الجيش الذي قتل نصف الضحايا بالقصف المدفعي وقذائف الدبابات، مسؤول عن المجزرة، ومن خلفه النظام السياسي/الأمني بمختلف رموزه ومؤسساته، الضالع منها والمتآمر والصامت والمتواطئ...هذا أمر دفع بأقرب أصدقاء النظام، إلى التنديد بالفعلة الشنعاء، وتحميل السلطات الرسمية، كامل المسؤولية أو جزء منها.
من وقائع الجريمة في “الحولة”، يتضح لنا أن ثمة فاعلين اثنين ومرتكبين اثنين، لا فاعلا واحدا ومرتكبا واحدا...الجيش هو الفاعل الأول، لأنه لم يتوان عن قتل المدنيين بقذائف الدبابات والمدافع، وتقارير البعثة الدولية تؤكد وفاة أزيد من نصف الضحايا بقصف الدبابات والمدافع.....أما الفاعل الثاني، الذي استمرأ تقطيع أعناق الأطفال والنساء وأوصالهم، مستخدماً السلاح الأبيض و”البلطات” والقتل من مسافة قصيرة ( داخل الغرفة ذاتها)، فأحسب أنه فاعل “ميليشياوي”، مثقل بالأحقاد المذهبية والطائفية...لقد عرفنا هذا النمط وتعرفنا إليه في لبنان والعراق إبّان حربيهما الأهليتين، وبمقدورنا أن نشتم رائحة هذا النوع من القتل والقتلة، بمجرد استعراض صور الضحايا الأبرياء.
أما من هي هذه “الميليشيا المذهبية” التي دخلت إلى “الحولة” وقطّعت أوصال أبنائها وبناتها، فلسنا على بيّنة من الأمر بعد، والأمر رهن بتحقيق موضوعي ونزيه ومهني، وهذه صفات لا تتوفر في لجنة التحقيق الرسمية التي شكلها النظام، لتقصي ملابسات الجريمة والكشف عن الجناة...نحن إزاء فعل جرمي ميليشياوي مذهبي، الجيش لا يفعل ذلك والنظام لا مصلحة له بمثل هذه الأعمال التي ترتد عليه وتُحشّد العالم بأسره ضده، بمن فيهم أصدقاؤه.
المليشيا المذهبية التي نقصد إما أن تكون “كتيبة من كتائب الشبيحة”، مشبعة بالحقد المذهبي، وخارجة عن السيطرة، وإما أن تكون ميليشيا مذهبية سنيّة متطرفة، تستعجل إشاعة الفوضى والحرب الأهلية والتدخل الأجنبي، لتتوفر لها بيئة خصبة للتمدد والانتشار، وفرض منطقها الخاص على “الملاذات الامنة” التي تسعى في إيجادها، لتقيم عليها إماراتها الإسلامية، تماماً مثلما كان يحدث في العراق، حيث قتلت ميليشيات من هذا النوع، من أبناء طائفتها ومذهبها، أكثر مما قتلت من أبناء الطوائف الأخرى، وبالطبع أضعاف أضعاف من قتلت من الأميريكيين.
والحقيقة أن الوضع العام في سوريا يبدو بمجمله وقد خرج عن سيطرة الأطراف الرئيسة في الصراع...لا النظام قادر على الادعاء بأنه يبسط سلطانه على عموم الأراضي السورية (بدلالة حولة) أو أنه يسيطر على عموم ميليشياته...ولا المعارضة تدري ماذا يجري على أرض الصدام المسلح، ناهيك عن انعدام قدرتها على السيطرة والتحكم بالمجاميع والمجموعات المتعددة التي تمارس القتل والخطف و”السلبطة” جنباً إلى جنب مع استهداف رموز السلطة والأمن والجيش.
لقد أحدثت مجزرة الحولة تغييراً جوهرياً في الوجهة العامة لمواقف مختلف اللاعبين في الأزمة السورية...وهو تغيير ستظهر نتائجه في المستقبل القريب، ولعل أول وأهم استحقاق لهذا التغيير، ستتضح نتائجه في القمة الروسية الأمريكية المنتظرة الشهر المقبل...وربما تكون زيارة عنان الحالية لدمشق، مؤشر آخر على الوجهة التي سيسلكها المجتمع الدولي بعد “الحولة”.
واشنطن تجد صعوبة على ما يبدو في ترك الملف السوري والاكتفاء بمراقبته عن بعد...وروسيا سئمت من دفاعها عن نظام لم يمكّنها حتى الآن، من أداء دورها كحاجز منيع يحول دون الانتقال بملفاته إلى “الفصل السابع” من ميثاق الأمم المتحدة...وفي هذا السياق تتكاثر الأحاديث والمعلومات عن “صفقة محتملة” بين القطبين، تعيد إنتاج “المبادرة الخليجية لليمن” ولكن بطبعة سورية مزيدة ومنقحة.
يوماً بعد يوم، تتلاشى فرص الحل السياسي للأزمة السورية، وتتورط الأطراف أكثر فأكثر في لعبة السلاح والتسليح القاتلة، وتتسع الفجوة بين مكونات الشعب السوري وطوائفه ومذاهبه، تتفكك الدولة وتنمو على حسابها، مختلف الهويات الفرعية والثانوية وترتسم خطوط الحدود على تخوم الترانسفير السكاني الآخذ في التسارع، وتُرسم لسوريا خريطة سياسية جديدة غير تلك التي عرفناه من قبل...وهذا ما يدعونا مجدداً للتأكيد على ما كنا قد ذهبنا إليه من قبل، بأن المهمة التي لا تفوقها أهمية، أي مهمة أخرى، هي حفظ سوريا وإدراكها قبل خراب دمشق وحلب واللاذقية والسويداء. ( الدستور )