على سرير الشفاه

بمناسبة صدور كتاب (على سرير الشفاه) للراحل الحاضر محمد طمليه، أقام بيت بلدنا مساء الأربعاء الماضي حفل استذكار للكاتب. بمشاركة مفلح العدوان، مع وصلة غنائية للفنان كمال خليل، قائد فرقة بلدنا، وقد كان لي شرف المشاركة بالحفل بكلمة اختصرتها لكم هنا.
على طريقة جورج أمادوا في قصته الطويلة (كانكان العوام الذي مات مرتين) التي تحدث فيها حول شلة احتفلوا مع صديقهم بعد وفاته، حيث اجلسوه معهم وهو متوفى، أطعموه وأسقوه وحدثوه ومازحوه ، ثم دفنوه .وها نحن نشهد حفل إشهار كتاب جديد للراحل محمد طمليه، ولكأنني اشهد ابتسامته الساخرة، وهو يرانا نعيد إحياء كانكان العوام، للمرة الثالثة.
لن أتحدث حول هذا الكتاب- على سرير الشفاه- الذي ولد يتيما ، فهو كتاب مفرط في الإيلام، يكاد يضع القارئ على حافة اليأس ، رغم ما فيه من أمل وتحدٍ وإبداع وتجديد وابتكار؛ لأن صاحبه سقط مضرجا بروحه المتعبة، في معركة الحياة.بل اتحدث حول محمد طمليه ..ما غيره!!
طمليه ابتكر اسلوبا عبقريا في التلاعب بالكلمات والجمل، وابتكار التعابير العذراء وخلق علاقات بين الكلمات لم تكن قد ولدت بعد . لذلك لم يستطع اي منا – نحن الساخرين المحدثين- تقليده او الاقتراب منه فنيا، وهذا ما (أجبرنا) على ابتكار قاموس خاص بكل واحد منا، ربما لأننا عجزنا عن نسخ لغة طمليه . لكن هذا كان فأل خير علينا جميعا، اذ رغم بعض التداخلات والتشابكات القليلة ،الا ان كل كاتب اردني ساخر صار يحمل بصمته الخاصة، ويعود الفضل في هذا التمايز،الى لغة طملية التي يصعب تقليدها.
كان حلم طمليه الدائم وهاجسه المقلق، أن يكتب رواية تضعه في مصاف كتاب الرواية في العالم . وكان يقول - كما تعلمون - بأن السرطان هو مجرد سكرتير شخصي قام بتعيينه ليذكره كل صباح بواجبه ازاء مشروعه الأدبي .بالمناسبة طمليه كان مذهولا بالروايات ، خصوصا الروسية والسوفييتيه منها، وكان يحفظ مقاطعَ كاملة، ويقلد شخصياتها ويتأثر بها ويتقمص حيواتهم أحيانا ، ويتصرف كثيرا كما يتوقع ان يتصرف احد ابطال الأخوة كرامازوف او الدون الهادئ او غيرها.
لم يكتب طمليه روايته، ربما اقترف الكثير من الفقرات والأسطر التي كان ينوي أن يضعها في متن النص ، لكنه لم يرض عن اي حرف منها ، كان يريد شيئا أكثر وأعمق وأكثر دهشة.
وكان ينبغي أن يموت طمليه؛ لندرك أن روايته الحقة كانت سيرة محمد طمليه نفسه، وأن حياته ومماته، وما بينهما من دهشة وقلق وسأم وتراجيوكوميديا، وما فيها من بؤس وثراء وشجاعة وجبن وخجل ووقاحة انهزام وتحد ،عشق وخيانة..... هي رواية طمليه التي لم يكتبها ،لأنه كان يبحث عن روايته في الخارج بينما كانت تقبع في الداخل –داخله- على أهبة السطوع والتحول من لحم ودم وعرق..... الى ورق .
قد يكتب احد ما في المستقبل سيرة حياة طمليه، لكنها لن تكون على الإطلاق رواية طمليه التي كان يحلم بها؛ لأنها ستكون مكتوبة بغير لغته، ومنطوقة بغير حنجرته، ومضرجة بغير دمه.
ربما كان يدرك جوهر روايته، لكنه لم يكتبها؛ لأنه كان قصير النفس.
محمد طمليه ...إنها خسارة ألا توجعك لغته وتنخزك في الخاصرة كل صباح لتشعر انك ما تزال على قيد الحياة.
بعد طمليه ..كيف سنتأكد بأننا أحياء؟؟ (الدستور)