ثقافات متخيلة وهويات عنيدة

اكتسب ملايين البشر شعورهم الوطني، وما يتبعه من أحاسيس بالهوية والمواطنة، عندما وضعتهم الصحف في اهتمام مشترك مع بعضهم. كان ذلك حينما كانت الصحف هي زاد النخب التي تشكل الرأي العام. بينما فتحت الإذاعة النافذة السحرية للخيال في دغدغة مشاعر الانتماء للجماعة والإحساس بالهوية وتحفيزها، وقام التلفزيون بصياغة القيم التي حددت الهوية الوطنية وجسدتها. واليوم، يعمل الإعلام الجديد والبيئة الجديدة للإعلام على خلط الأوراق، وفتح منافذ متعددة لصناعة ثقافات متخلية، ودغدغة أحلام الهويات المبعثرة.
تشكل نماذج دول ومجتمعات أوروبا الشرقية، في حالتي الاندماج في عهد الكتلة الشرقية وفي عهد الدولة الجديدة، أمثلة قريبة لهذا الدور؛ إذ ثبت من تجارب هذه الشعوب أن الإعلام الموجه من قبل الدولة، وتحت وطأة القمع الممارس من قبلها، لم يكن كافياً لترسيخ عواطف وطنية جامعة، وإنشاء هوية على أسس أيديولوجية، كما هو الحال في الإعلام الوافد من الخارج عبر التمويل والمنح المبرمجة الذي سعى إلى خلق ثقافة متخيلة، بل أثبتت الوقائع أن الثقافات المحلية والإقليمية قد استخدمت وسائل الإعلام في إعادة تشكيل الهويات الوطنية، وبسرعة إحياء وتجدد تجاوزت التوقعات، وهو ما يتحدث عنه اليوم ما يسمى بتيار "عودة الأوطان" في أدبيات ما بعد الحداثة، ليس في أوروبا الشرقية، بل في ثقافات محلية وهويات بائدة استعادة مكانتها بفضل استخدامها المكثف للإعلام.
تعمل وسائل الإعلام الجديد على أكثر من مستوى في التوحد والدمج والتجزئة والتفتيت؛ فالتطبيقات التكنولوجية الجديدة، وقدرة شبكة الإنترنت، لا تتوقف على قوتها في نشر الوعي بالهوية وتقريب الناس وتقليل شأن عنصر المكان كوعاء للهويات الوطنية، وبروز هويات وطنية تتجاوز الحدود، بل تمتد إلى صناعة الهويات المتخيلة.
البيئة الإعلامية الجديدة تقدم فعالية فائقة في إعادة صياغة وإحياء الهويات الجماعية عن طريق تقليل أثر العلاقات القائمة ما بين المكان والحيز المادي وطرق التواصل التقليدي، إلى اعتماد المنافذ الجديدة للمعلومات وشبكات التواصل العابرة للحدود. وقد أدركت قوى دولية عديدة أهمية هذا التحول، ودوره في إعادة صياغة الثقافات وفق مصالحها.
وعلى الرغم من أن الإعلام الجديد يشكل أحد أدوات وعتاد العولمة القائمة على مبدأ التنميط الثقافي، إلا أن حصاد السنوات الأخيرة لم يأت مجمله في خدمة التحليل الإمبريالي لمستقبل الثقافة؛ أي تمييع الهويات الوطنية ومحو الثقافات المحلية على أساس أن تكنولوجيا الإعلام الجديد قادرة على أن تفصل الهوية عن المكان، ما يقدم لنشوء ثقافات عابرة للحدود الوطنية، بينما الحدود بدورها تتحول تدريجياً إلى حدود شفافة تعبرها الأفكار إلى جانب السلع دون حواجز قانونية أو ثقافية. مقابل ذلك، يرى تيار ما بعد الحداثة أن الإعلام الجديد يذهب في اتجاه آخر؛ نحو تعددية وتكاثر تعبيرات الثقافات الوطنية، وإلى التفتيت والتجزئة أكثر من الاندماج.
ومع هذا وذاك، تقود الاستنتاجات إلى أن البيئات الإعلامية المعاصرة قد وفرت فرصاً هائلة لنمو الهويات العابرة للحدود، والمتجاوزة لشرط المكان. وثمة تيار إحيائي للهويات المحلية الفرعية، يجتاح جهات متعددة من العالم، ليس في دول أوروبا الشرقية الجديدة، بل في جهات متعددة وفي مجتمعات تخرج من فوضى الحروب الأخيرة.
ولعل مشهد إحياء الهويات المحلية في العراق بعد حرب العام 2003، وارتفاع أصوات الأقليات الثقافية والدينية بعد تيار الثورات العربي، أمثلة واضحة على ما منحه الإعلام الجديد والبث التلفزيوني المباشر من إمكانات للجماعات الثقافية المحلية، بغض النظر عن حجمها وتمثيلها الفعلي؛ ما نحت مفهوم "الأقليات الصارخة".
الاستنتاج الأول في جدل الثقافات المتخيلة واللعب بالثقافات الراكدة، يبدو في أن الهويات المشكلة بعناية والمصاغة حسب قوالب الدولة، هي هويات في خطر ما لم تشهد إنماء يدخل إلى عمق المجتمع. والاستنتاج الآخر الذي لا يقل خطورة، هو أن الهويات التي تسعى إلى تشكيلها ثقافات متخيلة قادمة من وراء البحار على أكتاف وكلاء محليين لا قيمة ولا أثر لها، إلا في خلق الفوضى المؤقتة. ( الغد )