«الدولة المدنية» عند الإسلاميين

تجنح معظم حركات الإسلام السياسي (الإخوانية بشكل خاص)، إلى نفي “الدولة الدينية”، باعتبارها ليست جزءاً من تعاليم الإسلام وتاريخه وتقاليده في الحكم، وتفضل بدلاً عنها، الحديث عن دولة “مدنية” و”ديمقراطية”، وأحياناً يجري اتباع هذا التعريف بسيل من التوصيفات الأخلاقية والقيمية من نوع: “العادلة” و”الوطنية” و”السيّدة” إلى غير ما هنالك مما يُعد تطوراً إيجابياً في خطاب هذه الحركات.
على أن تجربة الربيع العربي، وما جاءت به انتخاباته من نتائج أوصلت الإسلاميين إلى السلطة في عدد من الدول العربية أو قرّبتهم منها، باتت تملي على هذه الحركات، كما على مختلف التيارات السياسية والفكرية والاجتماعية، الهبوط من علياء “العام” و”التجريد” إلى “الخاص” والواقع الملموس والمُعاش...فما هي هذه الدولة المدنية، وكيف تتوزع فيها السلطات، وما هي حقوق الأفراد والجماعات فيها، وما علاقة الشريعة بالتشريع، وماذا عن غير المسلمين والنساء، وهل ثمة سقوف لحقوقهم في الولاية والقضاء، إلى غير ما هنالك من أسئلة وتساؤلات، لم تعد حكاية “الدولة المدنية” بثوبها الفضفاض، تكفي للإجابة عليها.
وزاد الأمر إلحاحاً، أن بعض هذه الحركات أبدى ميلاً للاستئثار والهيمنة، لم يخفف من وقعه، سوى إدراكه المتأخر بأن حجم نفوذه في الشارع، لا يمكّنه من ممارسة السلطة منفرداً، أو فرض منطقه الخاص على الدولة والمجتمع...فإخوان مصر تحدثوا عشية الربيع العربي، عن “مرجعية فوق دستورية” يتولاها الفقهاء والعلماء للبت في مدى مواءمة التشريعات مع الشريعة، وبما يشبه ولاية “مجلس الخبراء” أو نظام “ولاية الفقيه” في إيران، وهي مرجعية تذكر بـ”الحاكمية لله”...وتجربة الإخوان في مصر مع “اللجنة التأسيسية” أثارت القشعريرة في نفوس مجادليهم، إذ استأثروا والسلفيين بسبعين بالمائة من مقاعد لجنة مفوضة بصياغة دستور توافقي جديد للبلاد...فضلاً عن تورطهم بسياسة اللعب على حبال “التحرير” و”الثورة” و”المجلس العسكري”...لقد توّلدت قناعة راسخة في مصر وتونس لدى التيارات الأخرى، بأن الإسلاميين ميّالون للهيمنة والاستئثار وإعادة إنتاج تجربة الحزب الواحد، إن تُرك لهم الحبل على الغارب، ولم يجدوا في الساحات والميادين من يقارعهم المعارضة والاختلاف ويتحدى برامجهم واطروحاتهم، شأنهم في ذلك، شأن مختلف التيارات السياسية والفكرية والاجتماعية التي سبقتهم للحكم والسلطة.
لا يكفي القول مثلاً، بأن النساء شقائق الرجال للدلالة على الحقوق المتساوية للمواطنين بصرف النظر عن الجنس، هناك أسئلة تتعلق بحقوق المرأة في العمل والسياسة والولاية والقضاء والإرث...لا يكفي القول إن “النصارى” عاشوا في ذمة الدولة الإسلامية وتشربوا الحضارة الإسلامية، لكأن معيار “جودة” المسيحي هي في قربه من الإسلام واقترابه من ثقافته وتعاليمه، ماذا عن حقوق غير المسلمين في الولاية والمشاركة وممارسة الشعائر وحرية الاعتقاد وبناء دور العبادة الخاصة بهم...لا يكفي الحديث عن الشريعة كمصدر رئيس (بعضهم يقول وحيد) للتشريع، ماذا عن المصادر الأخرى كالعرف والمواثيق الدولية والمعايير الإنسانية والعالمية، كيف يمكن الحفاظ على حقوق الأفراد وحرياتهم في هذا الإطار، بما فيها حرية الاعتقاد للمسلمين منذ ذوي الانتماءات العقائدية والفكرية الأخرى.
لا يكفي القول إنه ليس في الإسلام “إكليروس” ليقال إن الدولة الدينية ليست من الإسلام...فالدولة الدينية قامت ويمكن أن تقام من دون إكليروس، وثمة نماذج متفاوتة على هذا النمط من الدول، تبدأ بإمارة طالبان، التعبير الأكثر تطرفاً عنها، وتمر بإيران والسعودية وتنتهي بغيرهما.
الدولة المدنية ليست نقيض الدولة الدينية، إنها نقيض الدولة العسكرية، دولة الجنرالات والإنقلابات...بديل الدولة الدينية هو الدولة العلمانية، والدولة العلمانية يمكن أن تكون ديمقراطية وديكتاتورية بل وحتى شمولية....في حين أن الدولة الدينية هي دولة شمولية بالضرورة والتعريف.
لكن العلمانية ما زالت لدى إسلاميينا “رجس من عمل الشيطان” يتعين اجتنابه، وقد أمكن في سنوات صعود الحركات الإسلامية الثلاثين الأخيرة، “شيطنة” العلمانية وتقبيحها، بالاستفادة من النماذج البائسة التي آلت إليها نظمٌ شمولية وديكتاتورية علمانية...حتى بات العلمانيون العرب أنفسهم، من قوميين ويساريين وشيوعيين وليبراليين، يتجنبون الحديث عن علمانية الدولة التي ينشدون، خشية “التكفير” بادعاء مناهضة الدين والعداء له، أو “التخوين” خشية الاتهام بالارتباط بأنظمة الفساد والاستبداد، علمانية الطابع، التي حكمت في عدد من الأقطار العربية.
ليس المهم اسم الدولة التي ننشد بناءها...دولة مدنية لا بأس...لكن المهم أن لا يصبح شعار “الدولة المدنية” كشعار “الإسلام هو الحل” فضفاضا إلى الحد الذي يمكن أن يبتلع في تجاويفه ودهاليزه، الدولة والمدنية والديمقراطية والتعددية وحقوق الأفراد والجماعات...يجب أن تنتقل الحركات الإسلامية، خصوصا تلك التي تجلس على هرم السلطة أو تقترب منها تدريجيا، خطوات للأمام لتوضيح ما الذي تقصده بالدولة المدنية على وجه التحديد. ( الدستور )