مطلوب محللين عسكريين
إن الاتهام الذي وجهه كبير مراسلي القناة الرابعة التلفزيونية البريطانية، اليكس طومسون، لما يسمى "الجيش السوري الحر " بمحاولة التسبب عمدا بمقتله هو وطاقم فريقه، بينما كان يتنقل برفقة قافلة من سيارات مراقبي الأمم المتحدة، وإلصاق التهمة بالجيش العربي السوري، على ذمة صحيفة الغارديان البريطانية يوم الجمعة الماضي، هو في حد ذاته خبر يؤكد التزام الحكومة السورية ببند من بنود "خطة كوفي أنان " الستة يحث على السماح لوسائل الإعلام بتغطية ما وصفه الرئيس السوري بشار الأسد في خطابه الذي افتتح به مجلس الشعب المنتخب الشهر الماضي ب "الحرب " التي تشن ضد بلاده.
لكنه أيضا خبر يسلط الضوء على ما لم يعد أي مراقب محايد يشك في كونه حربا نفسية تشن ضد سورية كجزء لا يتجزأ من حرب فعلية على الأرض لم يكن اختيار ساحاتها الرئيسية عشوائيا بالتأكيد، مما يستدعي تدخل محللين عسكريين يفسرون للرأي العام العربي بعامة وفي سورية بخاصة الحقيقة التي وصفها المحلل السياسي الأميركي روس روثنبيرغ ب "الضحية الأولى للحرب " على سورية.
إذ لا يمكن أن يكون اختيار محافظات حمص وحماة وإدلب كساحات رئيسية لمحاولات العصابات المسلحة انتزاع ساحات "محررة " من سيطرة الحكومة المركزية في دمشق اختيارا عشوائيا، فإخراج المحافظات الثلاث من سيطرة الحكومة المركزية يقطع الطريق الرئيسي الواصل بين العاصمة السياسية في دمشق والعاصمة الاقتصادية في حلب.
ويعزل العاصمتين عن محافظتي اللاذقية وطرطوس على ساحل البحر الأبيض المتوسط وهما المنفذ البحري السوري الحر الذي لا يسيطر عليه حلف الناتو بقيادة الولايات المتحدة التي تهيمن على كل المنافذ البرية السورية عبر فلسطين المحتلة والأردن وتركيا والعراق عبر شراكات هذا الدول مع الحلف أو عبر علاقاتها الأميركية الثنائية.
كما يعزل العاصمتين عن السلة الغذائية السورية في محافظات الرقة والحسكة ودير الزور.
لكن الأهم هو أن إخراج المحافظات الثلاث من سيطرة الحكومة المركزية يؤمن لأي تمرد مسلح عليها منطقة منفتحة على تركيا في الشمال عبر محافظة إدلب، وعلى لبنان في الغرب والأردن في الجنوب عبر محافظة حمص، وفي هذه الحالة فقط تنفتح خطوط الإمداد الغربي والخليجي لهذا التمرد. إن نظرة سريعة على خريطة المحافظات السورية تغني عن البيان.
لذلك ليس من المتوقع أن يكون عشوائيا اختيار عناوين لأيام جمع الاحتجاجات الشعبية مثل جمعة "الحماية الأجنبية " وجمعة "حظر الطيران " وجمعة "المناطق الآمنة " لتتزامن مع تركيز التمرد المسلح في المحافظات الثلاث، فإخراجها من سيطرة الحكومة المركزية كان وسيظل شرطا مسبقا لأي احتمال واقعي لتحويل هذه العناوين إلى واقع.
وفي هذا السياق يكمن تفسير الانتصار الذي قاد الرئيس الأسد إلى زيارة بابا عمرو وغيره من أحياء حمص وضواحيها حيث أقام المتمردون المسلحون قواعد اعتقدوها آمنة لهم يتنقلون فيها بحرية عبر ممرات شقوها بين البيوت التي هجروا أهلها منها أو عبر أنفاق قيل إن طول أحدها بلغ سبعة كيلومترات وكان يوصلهم من وإلى لبنان، وفي السياق ذاته يفهم اشتراط سورية عدم التزامها ب "خطوط تماس " لقبولها ب "خطة كوفي أنان ".
لقد بادرت الحكومة السورية إلى وأد محاولات في المهد جرت في البداية لتحويل اللاذقية إلى مصراتة ليبية وتحويل درعا إلى بنغازي ليبية، يتم منهما التسلل إلى خاصرتها اللينة في حمص، وهي الجائزة الكبرى لأي تمرد مسلح.
ولحماية هذه الخاصرة اللينة من أي تسلل إسرائيلي إليها عبر وادي البقاع أو وادي خالد اللبنانيين كانت دمشق حريصة دائما على تحييد الجيش اللبناني في الأقل إن لم تستطع كسبه إلى جانبها في حالة الحرب المستمرة بينها وبين دولة الاحتلال الإسرائيلي، وليس سرا أن دمشق تدرك جيدا طبيعة النظام السياسي اللبناني الهش ودوره السلبي في عدم ضمان موقف ثابت للجيش اللبناني، ومن هنا بحثها عن ضمانات إضافية في دعم القوى الوطنية والقومية وقوى المقاومة في لبنان، ومن هنا كذلك حرص داعمي التمرد المسلح في سورية على بناء قاعدة خلفية له في شمال لبنان، حيث انفجر الوضع صراعا عنيفا مؤخرا.
وكل ذلك يحتاج بالتأكيد إلى خبراء عسكريين يحللونه ويفسرون خطورته وأهميته في الحرب التي تخوضها سورية اليوم دفاعا عن الوطن والدولة أولا ثم دفاعا عن النظام.
والحرب الإعلامية التي تحجب هذه الحقائق وتعمل كرأس رمح لحرب نفسية هي جزء لا يتجزأ من حرب أصبحت واقعا داميا على الأرض فعلا هي بحاجة كذلك لمثل هؤلاء الخبراء والمحللين لتفسير أبعادها ودورها في الحرب الفعلية.
إن التجاهل الإعلامي خلال الشهور الأولى للاحتجاجات في سورية لتأكيدات الحكومة السورية بوجود مسلحين يستهدفون قوى الجيش والأمن، ويضطرون في محاولاتهم إخراج مناطق من السيطرة المركزية عليها إلى تهجير قسري للمدنيين لم يجدوا مسوغا له أفضل من التهجير الطائفي، كان تجاهلا لا يمكن تفسير تركيزه كذلك على الاحتجاجات المدنية المبالغ فيها إلا بقصد توفير مهلة كافية للعصابات المسلحة كي تتمركز حيث خطط لها أن تتمركز وبخاصة في المحافظات الثلاث، بينما كانت تتخذ من الاحتجاجات الشعبية والتركيز الإعلامي عليها دروعا بشرية تتستر بها.
والتحليل الاحصائي لضحايا هذه الحرب بحاجة كذلك إلى محللين عسكريين، حيث جرى منذ البداية التلاعب بأرقامهم تضخيما لأعداد المدنيين منهم أو تجاهلا كاملا لأعداد جنود الجيش وعناصر الأمن والشرطة، وحيث تحولت أرقامهم إلى أداة إعلامية في الحرب النفسية، ومسوغا أساسيا لاستدراج التدخل العسكري الأجنبي والدعوة إلى فرض حظر جوي ومناطق آمنة وعقوبات اقتصادية وذريعة لتمويل وتسليح المتمردين بحجة الدفاع عن المدنيين، وحيث تحولت حصيلة الشهداء إلى القضية الأساسية في الظاهر الإعلامي لدبلوماسية الحرب على سورية التي تحرك جامعة الدول العربية والأمم المتحدة بمجلس أمنها وجمعيتها العامة.
في كانون الأول / ديسمبر الماضي توقف مكتب المفوض السامي لحقوق الإنسان في الأمم المتحدة عن إحصاء الضحايا معلنا أن إحصاءهم أصبح مهمة مستحيلة، وأعلن الناطق باسمه روبرت كولفيل عدم وجود "اتصال مباشر " بين المكتب وبين "المرصد السوري لحقوق الانسان " لأن مقره البريطاني "ليس في المنطقة " وهو المصدر الرئيسي للفضائيات العربية والأجنبية الكبرى التي يقول السوريون إنها "شريكة في سفك دماء السوريين ".
وفي التاسع والعشرين من الشهر الماضي اتفقت "بي بي سي "في تقرير منشور لها مع مكتب المفوض السامي بأن "التحقق من أرقام الضحايا مستحيل تقريبا "، وطعنت في حيادية الأرقام المأخوذة من مصادر المعارضة، وقالت إن "معظم العاملين في محاولة جمع المعلومات يعترفون بأن الأحوال الراهنة في سورية لا تسمح ببساطة بحصيلة دقيقة "، كما أن منهجية خمسة مصادر محسوبة على المعارضة تختلف في ما بينها ولذلك تختلف أرقامها "إلى حد كبير ".
وفي المقابل، تتحدث المصادر الرسمية السورية بالأسماء الكاملة والصور والعناوين والرتب العسكرية عن حوالي أربعة آلاف ضحية من الجيش والشرطة وقوى الأمن، بينما لا يعلن المسلحون عن أعداد قتلاهم، وتعلن السلطات السورية أسماء المدنيين الذين قتلوا بأيدي المسلحين إما لأسباب طائفية أو لأنهم "موالون "، لتكون حصيلة من قتل من المدنيين في تقاطع النيران أثناء المعارك "غير مؤهلة بالتأكيد لوصفها بكارثة إنسانية " كما قال المحلل السياسي الأميركي روثنبيرغ.
لكن تأكيد ذلك بحاجة أكيدة إلى محللين عسكريين لا يشرحون الأرقام فقط بل يوضحون كذلك من هو المستفيد من خسارة هذا العدد الكبير من الكفاءات العسكرية العربية السورية التي صرف الكثير من الوقت والمال لتدريبها استعدادا ليوم مواجهة محتوم مع دولة الاحتلال الإسرائيلي، وهو عدد يكاد يقترب من عدد خسائر جيش الاحتلال الأميركي المعلنة في العراق خلال ثماني سنوات، وليوضحوا من هو المسؤول حقا عن سفك دماء المدنيين وغير المدنيين في سورية.