( الرّبيعُ الأردنيّ ) بين الدّعوة السّلفيّة و ( الإخوان .. )
إنّ الحمدَ لله تعالى ، نحمدُه ونستعينه ونستغفرُه ، ونعوذُ بالله من شرور أنفسنا ومن سيئات أعمالنا ، من يهده الله فلا مضل له ومن يضلل فلا هادي له ، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له وأشهد أن محمداً عبده ورسوله .
أمّا بعد
فقد مضى أكثرُ من عامٍ ونصف على بدءِ ( الحراك الشعبي ) في بلدنا الأردن – حماه الله - و الذي ينادي بالإصلاح ، ومحاربة الفساد ؛ ومعروف أنّ هذه البداية قد تزامنت – إستراتيجيّا ! - مع حدوث الثورات في بعض البلدان الرّبيعيّة العربيّة وما نجم عنها من تبعات لا زالت الشعوب – هناك – تعاني آثارها الماثلة أمام العيان حتى الآن .
هذا ( الحِراك ) قد افتقد مع بداياته إلى التنظيم والرؤى الواضحة في المطالبات والوسائل المستخدمة من قبل الإخوان ( دعاة الإصلاح ) في تبليغ مطالبهم لأصحاب القرار كما يسمونهم ؛ وليس من المبالغة القول : أنّ هذه الصفة – وأعني : فقدان التنظيم والرؤى – لم تَزلْ هي الغالبة على تحركاتهم بشكل عام ، فهي لا تخرجُ – إطلاقاً – عن الوسيلة ( الأشهر ! ) عند ( شعوب الديمقراطيّة ! ) ألا وهي ( النزول للشارع ) كقوة ضاغطة على الحكومات لتحقيق المطالب المحصورة – فيما يبدو لنا - بالإصلاحات السياسيّة ، ومحاربة الفساد ، ومحاسبة أصحابه ، وتحسين ظروف المعيشة المادّية للمواطنين .
إنّ الإصلاحَ ، واستئصال شأفة الفساد لهو مما جاء به الأنبياء والرّسل – عليهم السلام - ومن أهم ما دعوا الناس لأجْله ؛ بل إنّ حدوث الفساد هو ما خشيته ملائكة الله – عزّ وجلّ – من انتشار ذريّة آدم – عليه السلام – في الأرض { وإذْ قالَ ربُّك للملائكة إنّي جاعلٌ في الأرضِ خليفةً قالوا أتجعلُ فيها منْ يُفْسِد فيها ويسفكُ الدّماءَ ونحنُ نسبّحُ بحمدكَ ونقدّس لك قالَ إنّي أعلمُ مالا تَعْلمون } .
وأمّا ( تحسينُ الظروف المعيشيّة ) ؛ فإنّ من مقاصد الشريعة الإسلاميّة الخمسة هو ( حفظَ النّفس ) ؛ وهذا من مستلزماته – كما هو معلوم – توفير القدْر الكافي والمتوازن من الطعام والشراب ، والمسكن ، والملْبس ، والحماية من الضرر ، وصيانتها من المكروه ؛ فجاء الإسلام يحضّ على العمل فيما أحلّه الله – تعالى - ، والاعتدال في المأكل والمشرب والملْبس ، والادّخار ، وكذلك فرض الزكاة على الأغنياء وصرْفها على الفقراء ، وحثّ على الصدقات ، وحرّم قتْل النفس إلا بالحقّ ، والانتحار ، والإلقاء بها إلى التهلكة ؛ والنصوص في ذلك متوافرة كثيرة .
نتّفقُ جميعاً على أنّ الواجب الشرعي هو ( إنكار الفساد ) ، وبغض أهله ، وضرورة مُحاسبتهم وعقابهم ، ونتّفق على إرادة الإصلاح ، والسعي نحو التغيّر ( الإيجابي ) قدْر المُستطاع ، وإعطاء كلّ ذي حقّ حقّه .. ؛ لكنّ الخلاف – مع الأسف - ( كبيرٌ جداً ) بين فئات الشعب الأردني في تحديد الفساد الأولى بالإنكار والعلاج ، وماهية ( السبيل الصحيح ) إليهما ، و يختلفون أيضاً في ( رؤاهم الإصلاحيّة ) ، وشكل التغيّرات الإيجابيّة المطلوبة .
ليس ثمّة شكّ في أنّ الفساد متعدّد ، وله صورٌ كثيرة ، وأشكال متغايرة ؛ مُخطئ من ( يختصره ! ) في صورة منفردة ، أو ( يحْشُرُه ) في زاويةٍ واحدة ، أو يجْعله على نفْس الدرجة من التأثير والعواقب ؛ فمن أصناف الفساد : خيانة الأمانة ولها صور كثيرة ، وانتهاك حرمات الله – تعالى – والتهاون في الفرائض والطاعات ، وإثارة الشهوات والشبهات ، والإصرار على المعاصي ، وهجْر السّنة والابتداع في دين الله ، وغير هذا مما استشرى – اليوم – في جسد الأمّة .
وبناءً على هذا يتفرّق ( الفاسدون ) : بين رؤساء أو مسؤولين ومرؤوسين ، و بين ( علماء سوء ) وعوام ، وبين أغنياء وفقراء ؛ لكنّهم ( يجتمعون ) في النهاية بكوْنهم سببَ ظهور الفساد العام الذي أخبر به ربُّ العزة : { ظَهرَ الفسادُ في البرِّ والبحْرِ بما كسبت أيدي النّاس ليُذيقهم بعْضَ الذي عملوا لعلّهم يَرْجعون } .
وإذا كان الأمرُ على هذا النحو ؛ فإنّ أيّ ( دعْوة للإصلاح ) يتحتّم عليها اعتبار الحيثيّات التي تحْتفُّ بكلِّ نوع من أنواع الفساد ؛ سواءٌ من جهة المكان الذي يوجد في الفساد وزمانه ، والأشخاص الذين يصدر منهم ، أو مدى تأثيره على المسلمين في دينهم ودنياهم ، واختيار الطريقة المثلى لعلاجه أو إنكاره ، والضوابط الشرعية لذلك كلّه ؛ وهذا يقتضي – بلا شكٍّ – أن يكون دعاةُ ( الإصْلاح ) من أهل العلم والبصيرة والدراية والاختصاص ؛ ولا يُتْرك الأمر مَشَاعاً بن الناس ؛ فيحدث من المفاسد ما هو أعظم من فوات المصالح ، وقد نبكي في غدٍ على ما نبكي منه اليوم ؛ وقد قيل : منْ نظَر في العواقبِ سَلِمَ منَ النّوائب .
الحراك الشعبي في الأردن :
الأردن بلدٌ طيّبٌ مبارك - فضْلاً من الله – مُسْتقرٌّ آمن ؛ رغم ما يعتريه – كثيراً – من النائبات ، ورغم ما يعانيه من قلّة الموارد و الإمكانات ؛ وكذلك مما يعاديه من عظيم المشكلات ؛ وإنّ من هذا – لا على سبيل الحصر – دخولَ آفة الفساد على بعض من يتولى شؤون الناس من الوزراء ، والمدراء والموظّفين ، وهم الذين نسمّيهم – اصطلاحاً – ( المسؤولين ) ؛ وعند الله – هم – كذلك ؛ وهذه الآفة لا يسْلم منها بلدٌ ؛ مع اختلاف الصّور ، وفارق القدْر والأثر .
تركّزت مطالبات ( الحِراك الشعبي ) على هذا الجانب ( أعني : الفساد ) بشكلٍ لافت للأنظار ؛ ورافق ذلك شعارات تنادي بالإصلاح الدستوري وما إلى ذلك ؛ ثمّ كان يطفو على السطح – من حين لآخر – أهدافٌ سياسيّة بحتة كـ ( إصلاح النظام ! ) و ( استرداد سلطات الشعب ! ) .
وأمّا ( دعاة الإصلاح ) الذين يقودون هذا ( الحِراك ) فهم نسيجٌ من ( أبناء الوطن ) ؛ يتألّفون من طوائف وجماعات وأحزاب متعدّدة ، وينحدرون من منابع فكريّة متشتتة ؛ ففيهم من الأحزاب والجماعات والفرق ( الإسلاميّة ) ، والليبراليّة ، والشيوعيّة ، والعلّانيّة ، ... .
ظهر من أولئك جميعاً حزب ( الإخوان المسلمون ) ؛ويُعْزى هذا ( الظهور ) إلى أسباب تتعلّق بالتنظيم الإداري والمالي المُتقن ، والدّعم المادي السّخي له ؛ أضف إلى هذا ( شعبيته! ) الكبيرة ؛ فإنّ الناس – بفطرتهم السليمة – يميلون إلى كلّ دعوة ( سياسيّة أو اجتماعيّة ) تنادي باسم الإسلام ، ولا يدّققون – في أغلب الأحيان – بمضمون تلك الدعوة ، أو توجّهاتها ( الذاتيّة ) ، وأهدافها السياسيّة .
و حزب ( الإخوان المسلمون ) في الأردن ممثلٌ بـ ( جبهة العمل الإسلامي ) ليس لهم منهجيّة مستقلّة في العمل السياسي ؛ بل هم مرتبطون - و بشكل وثيق – بتنظيم ديني سياسي عريض ، بلده الأم ( دولة مصر ) ، وينتشر في كثير من الدول العربيّة وغيرها ؛ ولا يُظنُّ غيابُ التنسيق بينهم في التخطيط للأنشطة السياسيّة وما أشبه ذلك .
ديدنُهم السياسة .. بمعنى أنهم لا يُولونَ جانب العلم الشرعي كبير اهتمام ، ولا يعطون الكثير من وقتهم من أجل طلب العلم ، أو تعليم الناس أمورَ دينهم ( في العقائد والعبادات والمعاملات ) ، أو التأليف والتصنيف وتحقيق الكتب العلميّة ؛ ولذلك لم يبرز فيهم – هنا – أيُّ عالم بالشريعة ، وليس لهم نتاج علميّ يُذكر ؛ لكنّهم في ( السياسة العصريّة ) لا يُشقّ لهم غُبار ، وهم متمرِّسون مُتفرّسون فيها .
إزاء هذا الحزب .. كانت هناك دعوةٌ دينيّة تؤصّل لمنهج علميٍّ يقوم على إحياء مذهب السلف الصالح الأول في فهم الكتاب والسّنة ، وتصفية الدين الإسلامي من شوائب البدع والخرافات في المعتقدات والعبادات والمعاملات ، وكذلك الأقوال الفقهيّة الشّاذة ؛ ثمّ تربية الأمّة – بعد ذلك – على هذا الإسلام المُصفّى ؛ وهذا المنهج معروف - عند أصحاب هذه الدعوة – بـ ( منهج التصفية والتربية ) ؛ والذي قاد لواءه مُحدِّث العصر الإمام المجدّد محمد ناصر الدين الألباني ؛ والذي يعود إليه الفضل – من بعد الله عز وجل – في الانتشار الواسع لهذه الدّعوة السّلفيّة في بلدنا العزيز الأردن .
الدعوة السلفيّة دعوة علميّة خالصة ؛ تحثّ على طلب العلم الشرعي وتعظّمه ، وتحضّ على الاجتهاد ، لكنها ليست على وفاق مع ( السياسة العصرية ! ) ؛ بل إنّ السلفيين الأردنيين يتداولون – كثيراً – العبارة المشتهرة عن الإمام الألباني : " من السياسة ترك السياسة " ؛ وقد سبق الحديث عنها في مقالة من أربعة أجزاء مطوّلات ، عنوانها نفسُ العبارة .
انتشرت حمّى ( الربيع العربي ) في بعض بلاد العرب ؛ ولا أرى حاجة للحديث عنها ، وعن تداعياتها ؛ فما منّا من أحد إلا ولديه علم حول ما يجري بسببها هنا وهناك .. ؛ وما يعنيني – هنا - هو التعريف بمذهب الدّعوة السلفيّة في ( الفتن الجارية ) وما يقابله عند حزب ( الإخوان المسلمون ) ؛ ومن الجدير ذكره : أنّ الدّعوة السّلفيّة و ( الإخوان ) فيما يطلقون عليه اسم ( الربيع الأردني ) على طرفي نقيضٍ - تماماً دون نُقصان – سواء أكان هذا في المقاصد أو الوسائل ؛ ومن يدّعي – علماً - خلاف ما نقول ؛ فنحن نسمع منه صحيحَ المنقول ، وصريحَ المعقول ؛ وأمّا ما كان ناجماً عن ( الانفعالات الحماسيّة ) ، ناتجاً عن ( الخطابات السياسيّة ) فلا حاجة لنا به ، ودعوتنا عنه غنيّة .
وللحديث – إن شاء الله – بقيّة ..
أسأل الله العظيم أن يحفظ بلاد المسلمين من الفتن ؛ ما ظهر منها وما بطن ، وأن يُصلحنا وولاة أمورنا ، وان يُرينا الحقَّ غير مُلتبس علينا ويرزقنا إتباعه ، وأن يرينا الباطل غير ملتبس علينا ويرزقنا اجتنابه .
وآخر دعوانا أن الحمد لله ربِّ العالمين