تركيا وسوريا .. من «حافة الهاوية» إلى قعرها؟

بسقوط طائرة “إف 4” التركية بنيران المضادات الأرضية السورية، تكون العلاقات التركية – السورية قد سقطت في قعر هاوية لا عودة منها ولا أمل بشفائها...بل ان الحادثة، بما تحمله من مؤشرات دالّة على مستوى التوتر الذي أصاب هذه العلاقات في السنة الأخيرة، تدفع على الاعتقاد بأن “المواجهة المسلحة” حاصلة لا محالة، وأن المسألة مسألة وقت لا أكثر ولا أقل...فالحادث وإن بدا “صغيراً” بحجمه إلا أنه كان كبيراً بتداعياته، بالنظر لعمق الأزمة ودرجة الاستنفار المتبادل في العلاقات ما بين البلدين.
أنقرة قطّعت جميع حبالها مع دمشق، وهي تجهر صبح مساء بعدائها للنظام ورغبتها بالخلاص منه، لتتحول حادثة بحجم اختراق المجال الجوي السوري لعمل عدواني، مع أن المجالين الجوي والبحري السوريين لطالما اخترقا بطائرات وسفن معادية، لم تكن في طلعات عادية (أو غير مسلحة) كما تقول الرواية التركية، بل كانت مدججة بالصواريخ ومحمّلة ببنك أهداف اشتمل على منشأة نووية في أقصى الشمال ومعسكرات فلسطينية على مقربة من قلب العاصمة، ناهيك عن التحليق الاستفزازي فوق القصر الرئاسي في اللاذقية واغتيال العميد محمد سليمان من البحر، وهو جالس على شرفة منزله الساحلي...من دون أن نسمع في حينه عن “مضادات أرضية” وأنظمة دفاع جوي وصواريخ أرض بحر، ولو لم تكشف أطرافٌ ثالثة عن هذه الضربات العسكرية الإسرائيلية في العمق السوري، لما سمعنا بها أصلاً.
إن ذلك لا يقلل بالطبع، من خطورة الخرق الجوي التركي المُتعمّد للأجواء السورية، وهو أمر أكده الرئيس عبد الله غول قبل أن ينفيه وزير خارجيته الذي لم تفلح نظريته حول “العمق الاستراتيجي” ومبادرة “دول جوار العراق” بتبديد شغفه بـ”الناتو”، إذ كلما “دق الكوز في الجرة” يرفع عقيرته بالتهديد العسكري، مستنداً إلى جدار أطلسي كنّا نظن، أن تركيا لن تلوح به يوماً في مواجهة قضايا المشرق وأزمات المنطقة، سيما بعد الموقف التركي المشرف من الحرب على العراق 2003...لكن الأمور تغيرت على ما يبدو، بل وتغيرت كثيراً.
على أية حال، لم تكن الطائرة الحربية التركية في رحلة استجمام والتقاط صور سياحية للساحل السوري الجميل...الأرجح أنها كانت في واحدة من مهمتين أو كلتاهما معاً: استخبارية، لجمع المزيد من المعلومات والصور عن اماكن انتشار وتموضع الجيش السوري واسلحته الصاروخية ودفاعاته الجوية...والثانية، مهمة استفزازية لاختبار منظومة المقاومات الأرضية السورية، ودائما في سياق التحضير للسيناريو الأسوأ: سيناريو التدخل العسكري التركي في الأزمة السورية، الذي ينتظر الغطاء والتوقيت المناسبين لا أكثر ولا أقل.
ومن الجائز الافتراض أن أنقرة التي انتظرت التوقيت والغطاء مطوّلاً، ولم يتوافرا بعد، عمدت لافتعال هذه الحادثة لتسريعهما معاً: توفير المبرر الكافي للتدخل واستعجال التوقيت، وفي بلد كتركيا، فإن الذهاب إلى حرب مع “الجارة الجنوبية” بحاجة لتهيئة الرأي العام وتحضيره، ولقد رأينا في الأداء الإعلامي والدعائي لقادة تركيا، ما يشي بأن “القوم” بدأوا قولاً وفعلاً بقرع طبول الحرب وتهيئة الرأي العام التركي لها، من خلال مخاطبة نزعته القومية الأصيلة والقوية، واستنهاض حسه الرافض للمهانة والاستخفاق السوريين، ألم يقولوا إن “هيبة تركيا في الميزان” وأن الرصاص السوري الذي أطلق على الطائرة الحربية كان يستهدف “كرامة تركيا ودورها الإقليمي”...مع أن هذا الكلام، لم يقل بهذه الحدة، وعلى هذه الدرجة من الوضوح وبهذا القدر من التجييش ضد أحد، حتى حين فعلت إسرائيل ما فعلت في “أسطول الحرية”.
والخشية الحقيقية، أن تركيا تجد في العالم العربي من يشجعها على ارتكاب الحماقات ويحثها عليها....ألم يعرض رؤساء إحدى صحف المهجر النفطية، لائحة خيارات أمام أردوغان تبدأ بالمشاغلة الحربية على امتداد أزيد من 800 كليومتر من الحدود المشتركة، ولا تنتهي بسحق الجيش السوري وإغراق الشام في الظلام، إلى غير ما في “قائمة الطعام المسموم” التي يقترحها صاحبنا من خيارات وبدائل سوداوية وكارثية، تليق بأحقاده الجاهلية لا أكثر ولا أقل.
أنقرة بإرسالها الطائرة عامدة متعمدة إلى الأجواء السورية رفعت مستوى المواجهة مع سوريا، وسوريا بإسقاطها الطائرة التي تعرف هويتها (قد لا تعرف مهمتها أو تسليحها)، ردت على التحية التركية بمثلها، وربما بـ”أشد” منها...لنصل إلى وضعية “حافة الهاوية” بين البلدين...والأرجح أن الأيام المقبلة، ستشهد “تحرشات” تركية جديدة بالأجواء والمياه الإقليمية السورية، لننتهي إلى ضربة تركية “موقعية” مضادة، تعيد لأنقرة ما تعتقد أنه “كرامة مهدورة”.
لقد تحدث السيد أردوغان عن تغيير في قواعد الاشتباك مع سوريا، والأرجح أننا ذاهبون إلى “مناوشات” تركية – سورية، تبدو تركيا بحاجة لها أكثر من سوريا وذلك لضرب أكثر من عصفور بحجر واحد: (1) استعادة ما تسميه أنقرة هيبة الدولة الإقليمية...(2) التعرض لتجمعات وقواعد حزب العمال الكردستاني الذي استعاد نفوذه في مناطق شمال شرق سوريا...(3) إعطاء زخم إضافي للمعارضة السورية المسلحة التي تحتضنها تركيا وتوفر لها الدعم والإسناد، استعجالا بترحيل النظام الذي ظل عصيّا على السقوط برغم مرور 15 شهراً على الثورة السورية.
على أن الحرب الشاملة بين البلدين، بما هي تدخل عسكري شامل من الجانب التركي حصراً، ليس متوقعة في المدى المباشر، سيما أن البيئة الدولية والإقليمية الحاضنة لهذه الحرب والمحرضة عليها، لم تتهيأ بعد...لكن الخوف يكمن برغبة بعض الأطراف العربية والدولية، الزج بتركيا في “مهمة حربية في سوريا، نيابة عن هذه الأطراف، واستعجالاً للحظة الحسم والخلاص من النظام في دمشق، فهل تنجرف أنقرة سريعاً على هذا الطريق؟...أم أنه ما زال في الوقت متسع لإعمال صوت العقل والحكمة في مؤسسات صنع القرار الأمني والعسكري والسياسي في أنقرة ؟. ( الدستور )