من يملك قرار «وقف النار» في سوريا؟

تتراوح التقديرات بخصوص أعداد “المسلحين السوريين” من خارج أطر النظام وميليشياته ما بين 100- 200 ألف مسلح، يتوزعون على وحدات “الجيش السوري الحر” والملحقة بها والدائرة في فلكه، فضلاً عن ميليشيات إسلامية (إخوان وسلفيين) و”القاعدة” وشقيقاته، وناشطين محليين إلى جانب لصوص وقطاع طرق اتخذوا مما يجري في سوريا، سانحة لا تتكرر ليعيثوا في الأرض فساداً.
هؤلاء ليسوا “جماعات مسلحة أو إرهابية”...هذه جيوش تقاتل على الأرض السورية...تتوزع ولاءاتها وأجنداتها ومراكز صنع قراراتها، وفقاً لمصادر التسليح والتمويل والتدريب والإيواء، هنا تبرز دولتان عربيتان وتركيا، بوصفها أكثر الأطراف الإقليمية فاعلية على مسرح الحرب الدائرة في سوريا وعليها...ما يجعل المشهد السوري أشد تعقيداً مما يلوح في أذهان كثيرٍ من المتفائلين بفرص الحل السياسي واجتماعات جنيف ومبادرتي كوفي عنان الأولى والثانية المعدّلة.
مقابل “فوضى الجيوش” هذه، يتوفر النظام على ما يقرب من 400 ألف جندي تحت السلاح، ولا أحد يعرف كم تبلغ أعداد المنتسبين إلى أجهزته الأمنية المتعددة، فضلا عن ميليشات من “الشبيحة” الجاهزة للاستدعاء في أية لحظة لتحويل مناطق الاشتباك إلى مسارح دامية للجريمة، ما يدفعنا على الاعتقاد بأننا أمام نصف مليون جندي ورجل أمن يشتبكون في حروب متنقلة ودامية، مع “جيوش المسلحين وميليشياتهم”، يدعمهم حلف طويل وعريض يمتد من موسكو إلى الضاحية الجنوبية لبيروت مروراً بطهران وبكين وغيرهما.
انتهينا إلى وضعية لم يعد فيها حديث المعارضة التي نعرف، داخلية كانت أم خارجية، بالأمر المثير للإهتمام...هذه المعارضة، تستطيع قلة من بينها فقط، أن تمارس نفوذاً على “جزء من المسلحين”، ربما الجزء الأقل أهمية...أما بقية الجيوش، فلا قِبَلَ لأحد عليها، وهي لا تخضع لإمرة أحد ممن اجتمعوا في القاهرة ومن قبل في بروكسل واسطنبول...هذه المعارضات قد تكون الضحية التالية، إن لم نقل الأولى، لهذا الفلتان الأمني/ العسكري الذي يجتاح سوريا ويتهدد مستقبل وحدتها ومصير شعبها.
من هي الجهة التي سيكون بمقدورها أن تتخذ قراراً بـ”وقف إطلاق النار” على جبهة “المسلحين والعناصر المسلحة”؟...هل هي المجلس الوطني، الجيش الحر، الإخوان المسلمين، هيئة التنسيق، المنبر الديمقراطي، تيار بناء الدولة، المجلس الوطني الكردي، الهيئة العامة للثورة، التنسيقيات، المستقلين...هذا سؤال بسيط لا جواب بسيطا عليه، في المدى المنظور على الأقل.
في المقابل، هل ما زال النظام في سوريا ممتلكاً لزمام القرار بـ” وقف النار” إن هو أراد؟...تظهر الكثير من وقائع الأزمة السورية، بالذات في “الحولة” و”القبير” أن هناك أصابع أخرى عديدة، قادرة على الضغط على الزناد، غير أصابع القائد الأعلى أو رئيس هيئة الأركان المشتركة.
تستطيع المعارضة مجتمعة، إن اجتمع شملها بعد مؤتمر القاهرة، وبدعم قوي من رُعاتها الإقليميين أن تتخذ قراراً بوقف النار توطئة لولوج عتبات الحل الذي يقترحه كوفي عنان، وبفرض أن النظام تحت ضغط روسيا والصين وإيران جنح لـ”صمت المدافع”، هل سيتوقف إطلاق النار جدياً وبصورة ملموسة...ثمة شكوك كبير حول هذه المسألة، إذ في الظروف شديدة الحساسية في سوريا وفي مناخات انعدام الثقة بين الطرفين، وفي سياقات الصراع الضاري المحتدم على المغانم والنفوذ، وأحياناً السلب والنهب والاختطاف بدافع الفدية والاغتصاب، سيكون بمقدور أي مجموعة صغيرة أن تحبط أية ترتيبات كبيرة لاستعادة الأمن واخراس المدافع.
فما بالكم ونحن نسمع ونقرأ أن أطرافاً إقليمية عديدة، لم ترقها مبادرة عنان الأولى، تبدي ضيقاً واستخفافاً بمبادرته الثانية، وتستعجل سقوطها، مفضلة عليها قراراً أممياً بالتدخل العسكري الحازم والحاسم للصراع في سوريا...هذه الأطراف ستكون لديها عشرات القنوات والوسائل والأدوات المحلية، التي ستمكنها من قلب الطاولة على رؤوس اللاعبين، كل اللاعبين.
لقد بلغت الأزمة السورية حداً من التفاقم يكاد يلامس ضفاف الاستعصاء على الحل...أما بصيص الأمل فيتمثل في قدرة القطبين الروسي والأمريكي على بناء تفاهم عميق حول ملامح المخرج من الأزمة السورية، وتوفر الإرادة السياسية لدى العاصمتين موسكو وبكين للضغط على حلفائهما في سوريا والإقليم، لوقف ضخ السلاح للطرفين، وإلزامهما بالجلوس حول مائدة الحوار لتشكيل حكومة الوحدة الوطنية المؤقتة التي ستشرف على إدارة المرحلة الانتقالية...من دون انخراط كل هذه الأطراف العربية والإقليمية والدولية، في الحل وبجدية كاملة ونوايا حسنة، سيكون من الصعب جداً وقف شلال الدماء في سوريا...لكن ما هو أصعب من هذا الاحتمال الصعب، هو وصول هذه الأطراف إلى توافق مشفوع بالإرادة القوية والنوايا الحسنة حول خريطة طريق لسوريا...كان الله في عون السوريين. ( الدستور )