عسل قاب قبلتين

بيوتنا لا تستقيم بلا تثني الدوالي فوقها، وتمددها كجدائل الصبايا على سطوحها. الدوالي بنات بيوتنا الربيبات الطيبات، وكم كنا نعرِّش لها العرائش، ونهيئ لها مكاناً كي تتمدد، وحين كنا ننام تحت شعر الليل الفاحم، ونتتبع نجومه الناعسة، كنّا نتحسس مواطن ثآليلنا المفترضة، عناداً بتخويف الجدات اللواتي يمنعننا أن نعدَّ النجوم، ثم نمعن بقيس حلاوة الثريا من فوقنا، بخصلة عنقود يتدلى: فيا طيبك من ليل مبتهج بالعنب!.
وكنَّا نقطع ظهر البرد في الشتاء بالخبيصة (حلوى تُصنع من معقود العنب)، ونحترق بلذة جمرة الملول مع كل حبة زبيب نأخذها، ونمصمصُ عجمها(بذرها) بأطراف الأسنان، فيما عناقيدنا الممتلئة ترطب شمساً لاهبة من تموز إلى أيلول.
فيا أيتها العصافير النفورة الخائفة، حتى من همس ظلها على الأرض. أيتها الكمنجات الطائرة في صحن الفجر، المشتاقة لعسل بات قاب قبلتين. تعالي قبل أن تحمرَّ عين الشمس، وتحرق عينك. هيا لا تخافي من هذه الفزاعات التي ينصبها أصحاب الكروم بين الدوالي، هي ليست إلا خشبة بلهاء، غبية، يلبسونها ثيابهم وقبعاتهم المهترئة، وربطات أعناقهم الملونة الحالة على التقاعد. لا تخافي، حتى لو حركتها الريح وأحدثت ضجيجاً، بل اقتحميها، وخذي استراحة في صيوان أذنها. ولا تقولي إني أفشيت لك حيلة الفزاعات. صباح العنب، أيتها العصافير.
هي الكروم، تعلن عن نضجها المباغت تحت ضربات صيف قائظ، فرض علينا شروطه التموزية وقلب حصرمنا عناقيد تقطر عسلاً في غفلة منا. فتعالي أيتها العصافير الصديقة، واغمسي منقارك في حبة عنب أتخمتها الحلاوة. اشربي حد الارتعاش من عنبنا، لقاء تغريدة تصبينها في ليل عاشق، علَّ لحنك يمحو شيئاً من قبح عالم بات خانقاً فوق العادة.
هو العنب إذن. صوت الذهب المتكور بين عروق الدوالي الخُضر ككنز دفين. أو الدوالي مثل الأمهات الطيبات اللواتي لا يأمن على قطوفهن شمساً أو ليلاً؛ فتلف الواحدة منهن عناقيدها مثل رضيع أشبعته ونام. فمن يقرأ ذلك الاشتباك الجميل بين دالية مكتظة، وقطوف عنبها المرصوص؟!. ( الدستور )