الديني والإنساني

عندما يذهب الناس إلى صناديق الاقتراع لاختيار ممثليهم في البرلمان، فهذا يعني حتما أنهم يحتكمون إلى رأي الأغلبية في شأنهم كلّه، وأنهم فوضوا مجموعة منتخبة منهم لتقرر في شؤونهم؛ منح/ حجب الثقة عن الحكومة ومراقبتها، وإصدار التشريعات والقوانين المنظمة لحياة الناس. فالمرجعية التي يحدد بها الصواب من الخطأ هي ما يراه الناس كذلك؛ الصواب هو ما يراه الناس صوابا، والخطأ ما يرونه خطأ. هذا الاحتكام إلى "الانتخاب والتصويت" يقتضي حتما "أنسنة" أو عقلنة الحكم والتشريع وتنظيم حياة الناس، وأن الناس هم مرجع أنفسهم، ولا معنى للانتخاب غير ذلك!
السؤال هنا ببداهة: هل يعتقد "الإسلاميون" أن برنامجهم "الإسلامي" هو أمر إلهى يجب على الناس اتباعه؟ في هذه الحالة، ما معنى الانتخاب والاحتكام الى صناديق الاقتراع؟ أم يعتقدون أن برنامجهم إنساني يخضع للتصويت والتطوير والرد والقبول؟ في هذه الحالة ما معنى إسلامي؟ لماذا نلجأ إلى الانتخاب والتصويت والشورى طالما أن هناك "حق نزل من السماء" وما علينا سوى اتباعه؟
الواقع أن الأمر ليس بسيطا ولا يمكن تبسيطه؛ فالدين في حياة الناس وشأنهم يأخذ موقعا مهما ومعقدا، ويحتاجون أن يجيبوا أنفسهم كيف ينظمون علاقتهم بحياتهم المتغيرة الخاضعة لاجتهادهم العقلي، ويديرون شؤونهم، وكيف يوفقون بين ذلك ومعتقدهم الديني وما يؤمنون أنه نزل من السماء ويجب اتباعه.. وربما يكون مبتدأ ذلك في التمييز بين الديني والإنساني: ما هو دين من عند الله، وما هو شأن إنساني؟
مسارها من الإصلاحي إلى الدعوي إلى الاجتماعي إلى السياسي الدعوي ثم السياسي (المشاركة) ثم السياسي (المغالبة) أو في جمعها بين المسارات والخيارات معاً، وقعت الجماعات "الإسلامية" وأوقعت الدول والمجتمعات في فهم مرتبك ومضلل للفلسفة والأفكار الأساسية المنظمة لحياة الدول والمجتمعات وشؤونها، وصرنا عاجزين (دولاً ومجتمعات وأفراداً) عن التمييز بين المقدس والعادي، والديني المنزل من السماء والاجتهاد الإنساني، والتراث والدين، والنص الديني ومعناه/ معانيه، وفي الإقبال والتنافس على توظيف الدين باعتباره مورداً سياسياً واقتصادياً وانتخابياً.. تحوّل التنافس والنضال من أجل كرامة الناس ومطالبهم والارتقاء بحياتهم إلى التنافس حول الأكثر دينا. وفي اليقين المعتقد أنه نزل من السماء ثم التحرك لأجل جلب المؤيدين لهذا اليقين عبر صناديق الاقتراع أُفسدت الديمقراطية وفُرغت من محتواها، وفي الاعتقاد بأن من ينتخب "الدينيين" هو الأفضل عند الله والأكثر ثواباً وأجراً، دُمرت مبادئ التنافس، بل وأبيح لأجل هذا الهدف الديني الكذب والعمل غير الأخلاقي! ( الغد )