حدود الشرعيّة والشريعة

السياسة المصرية في بعديها الداخلي والخارجي، أشد تعقيداً ورسوخاً من أن تطالها يدا الرئيس المنتخب بالتغيير والتبديل الفوريين...خصوصاً في الملفات الأساسية: الخيارات الاقتصادية والاجتماعية الكبرى، دور الجيش والمؤسسة الأمنية، التشريع والشريعة، العلاقة مع واشنطن وتل أبيب، العلاقة مع القوى الإقليمية الرئيسة: تركيا وإيران والخليج العربي (السعودية بخاصة)، قضايا الحرب والسلام والمعاهدات والالتزامات.
يحتاج تغيير المقاربة المصرية لأي من هذه الملفات، إلى إحداث أكثر من انتخابات عامة واحدة، وليس لانتخابات واحدة انتهت بنصر “ملتبس”، لرئيس يجد نفسه “وحيداً” في التعامل مع “المؤسسة البيروقراطية العريقة” في أبعادها المدنية والعسكرية والسياسية والأمنية...سيما بعد حل مجلس الشعب وإخفاق “تيار الأغلبية البرلمانية” في تشكيل حكومة ما بعد الثورة...وعلى الذين ذهبوا بعيداً في التفاؤل بنتائج الإنتخابات المصرية، أن يعيدوا النظر في بعض حساباتهم أو كثيرٍ منها.
سيطرأ “تعديل” على المواقف والمقاربات السياسية المصرية في البعدين الداخلي والخارجي...أو ما يمكن تسميته “ Fine Tuning” لا أكثر ولا أقل...سنكون أمام فساد أقل وعدالة إجتماعية أكثر، هذا وعد الرئيس وحزبه وجوهر إيديولوجيته، ونحن نؤمن بأن تقدماً قد يحدث على هذه الملفات، إن لم يكن بفعل المبادئ، فلأسباب تتعلق بالمصلحة الذاتية في الاستعداد لمواجهات قادمة مع “صناديق الاقتراع” في ظل رأي عام يقظ وحساس و”مُتطلب”، غادر ثقافة الخوف والاستعباد، وبرهن أنه قادر على العودة مرة أخرى إلى “ميادين التحرير” في عموم الديار المصرية.
سيعود الجيش إلى ثكناته عملياً، لكنه لن يغادر دوره ا لاقتصادي والسياسي...مرسي أضعف من أي يحجم دور الجيش وأن يعيده إلى وظائفه الأولى، بعد كل هذا “الإنفلات” و”التوسع” في مهامه وأدواره واللذين كانا جزءاً لا يتجزأ من استراتيجية مبارك لكسب الولاء وإشغال المؤسسة العسكرية وإغراقها في غير وظائفها وأولوياتها...مرسي لن يسلم لقدره في هذا المجال، بيد أنه لن يقامر بمواجهة يعرف قبل غيره، وربما أكثر من غيره، بأن عواقبها وخيمة على رئاسته وجماعته وطموحاتهما السياسية والدعوية.
سنكون أمام مظاهر “أسلمة” متزايدة للدولة والمجتمع والتشريع، لن تصلح حدود فرض الشريعة والعمل بأحكامها و”الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر”...هذا فوق طاقة الرئيس على الإنجاز، لأنه فوق طاقة مصر على الاحتمال، وهي التي تعتمد على السياحة كثاني مورد للعملات الصعبة، وفي مصر كل العملات صعبة، ليست هناك عملة “سهلة” على الإطلاق، بعد أن امتد حبل الفقر المدقع حول رقاب ما يقرب من نصف سكان “أم الدنيا”.
أما في السياسة الخارجية، فلا انقلابات ولا مفاجآت...هناك أداء أكثر اتزانا وتوازناً، يبقي على السلام مع إسرائيل من دون “هرولة” للتطبيع معها، يحترم الاتفاقات والمعاهدات المبرمة من دون إضفاء هالة من “القداسة” عليها، ومن دون ذُلٍ أو إذلال، والمؤكد من دون تآمر أو تواطؤ...علاقات وطيدة مع الولايات المتحدة مصدر السلاح الرئيس للجيش المصري، و”المانح” الأكبر للمساعدات للدولة الفقيرة، من دون إنخراط ذليل في استراتيجياتها وحروبها السرية منها والعلنية...علاقات وثيقة مع تركيا من دون التورط في قطيعة أو استعداء لإيران كما فعل الرئيس المخلوع.
ظلال “الصراع الإخواني /السلفي” لن تأخذ علاقات مصر الخليجية إلى حافة القطيعة والهاوية، ستظل جميع الأطراف بحاجة لبعضها البعض...مصر بحاجة للمساعدات والاستثمارات وتحويلات الملايين من أبنائها العاملين في الخليج، ودول الخليج لن تقامر بتأزيم علاقاتها مع “الشقيقة الكبرى”، أما محاولات التفلت واللعب على وتر الاحتياجات الضاغطة للمصريين، فانه لا يصلح أبداً أن يكون سياسة سعودية.
بوجود مرسي في سدة الرئاسة المصرية، لن يكون الوسيط المصري سبباً في تعطيل المصالحة الوطنية الفلسطينية، وهو الدور الذي اتقنه بكل كفاءة واقتدار، الوزير اللواء عمر سليمان...مرسي سيكون مهتماً بالمصالحة لأنه غير قادر على الوفاء بأماني حماس وتطلعات أبناء القطاع الأسير والمُحاصَر...سيدفع بهذا الاتجاه لا حباً بعباس والسلطة والمنظمة، بل كرهاً بما تتطلبه أجندة حماس ومقتضيات رفع الحصار من ضرورات تبيح المحظورات.
في مطبخ صنع القرار والسياسة، الخارجية منهما والداخلية، سيجد مرسي نفسه بين نيران ثلاثة، وليس بين نارين اثنتين فقط...نار الخليفة السياسية والإيديولوجية التي من دونها سيفقد وجماعته، لونيهما وطعميهما ورائحتيهما من جهة أولى....ونار المؤسسة الأمنية/ العسكرية/ المدنية البيروقراطية التي تبدو بالنسبة له كـ”مثلث برمودا” الشهير من جهة ثانية...ونار الشارع الذي لم يجامل مرسي ولم يقبل حتى بمنحه مهلة “المئة يوم” التي تطلع لها لإحداث فرق في المسيرة والمسار المصريين.
إن قُدّر لمرسي أن يمكث في مكانه لولاية كاملة، سيكون بمقدوره “فكفكة” و”حلحلة” بعض عُقّد واستعصاءات السياستين الداخلية والخارجية...وأن يُحدث بعض “التعديل” على الأداء...لكن خروج الرجل من “عرينه” بانقلاب أو بتبكير الانتخابات، من شأنه أن يبقي أثره محدوداً...وحدها ولاية جديدة لمرسي أو من هو أكثر فاعلية وكارزمية منه في الإخوان، من شأنها أن توفر الفرصة لمزيد من التغيير الجوهري في هاتين السياستين.
على المستوى المباشر، مصر مقبلة على “تعديل” مساراتها، أما على المديين المتوسط والطويل الأمد، فأحسب أن تحليل هذه السياسات سيحتاج إلى “عرّاف” وليس إلى محلل سياسي لسبر أغوار التحولات الجديدة في سياسة مصر الداخلية والخارجية سواء بسواء...وإن غداً لناظره قريب.(الدستور)