وزارة الصحة تتّجه لرفع القيود عن علاج مؤمني الثانية والثالثة في المستشفيات الخاصة
المدينة نيوز - إذا كنت من مُؤمَّني الدرجتين الثّانية والثّالثة في وزارة الصحّة، فإنك ستكون بالتأكيد قد اختبرت تجربة مواعيد أطباء الاختصاص التي تُحَدد بعد أسابيع، أو حتى أشهر من بدء حالتك المرضية، والانتظار لساعات أمام أبواب عياداتهم، ثم الفحص العجول من طبيب بالكاد يسمح لك أن تشرح حالتك، لأن هناك العشرات غيرك في الخارج ينتظرون دورهم لديه.
وإذا ابتُليت بالإقامة في مستشفى حكومي، فإنك ستكون قاسيت إلى جانب آلام مرضك، رداءة وقذارة المرافق الصحيّة في المكان، وربما قذارة شراشف السرير الذي ترقد عليه، الفوضى وانعدام الخصوصية، اضافة الى هواجس النقص الخطير في التعقيم.
حسنا..
إن وزارة الصحّة لا تعدك بتحسين الخدمات في مستشفياتها، ولكن لديها توجّها إلى جعلك ترافق "المسعدين" من مُؤمَّني الدرجة الأولى فيها، الذين يعالجون في المستشفيات الخاصّة دون قيود، بموجب اتفاقية تعاون بين وزارة الصحّة وهذه المستشفيات، إذ أعلنت مؤخرا نيتها توسيع هذه الاتفاقية لتشمل بقية الدرجات.
ورغم أن المدير الجديد لإدارة التّأمين الصحي الدكتور جمال قناش، قال لـ"الغد" إن هذا التوجّه هو "فكرة قيد الدراسة"، وإن الأمر يحتاج إلى الكثير من التأنّي، لأن الكلفة المترتّبة على ذلك ستكون كبيرة جدّاً، فان المدير السابق للإدارة الدكتور خالد أبو هديب كان في نهاية أيار (مايو) الماضي، قد أعلن عن التفاصيل.
وكان ابو هديب كشف، في تصريحات صحفية عقب اجتماعه مع جمعية المستشفيات الأردنية، أن التوسع سيبدأ بمرحلة تجريبية مدتها ثلاثة أشهر، وسيكون في البداية مع عدد من المستشفيات. ووفق الخبر الذي نقلته "بترا"، فإن الجمعية قد تسلّمت بالفعل من إدارة التّأمين الصحّي "مسوّدة" لاتفاقية مقترحة.
وكان تطبيق الاتفاقية، التي تقتصر حالياً على مُؤمَّني الدرجة الأولى، قد بدأ في نيسان (أبريل) 2007، وقبلها كان صندوق التّأمين الصحي يغطي كلفة علاج مُؤمَّنيه في القطاع الخاص ضمن قيود، هي أن تكون الحالة طارئة، أو أن لا يتوفر للمريض السرير أو نوعية العلاج أو الفحوص التي تتطلبها حالته، وهنا كان المريض يحوّل بشكل رسمي إلى مستشفى خاص.
فجاءت الاتفاقية لترفع هذه القيود عن مُؤمَّني الدرجة الأولى، الذين أصبح بإمكانهم تلقّي العلاج بحريّة في أي واحد من المستشفيات المشتركة في الاتفاقية، ومن بينها كبريات المستشفيات الخاصة في العاصمة، شريطة أن يدفعوا 20 % من كلفة علاجهم، في حين يدفع صندوق التّأمين الصحي 80 %. مع ملاحظة أنّ العاملين من الوزراء والنواب والأعيان وشاغلي الوظائف من الفئة العليا معفيّون من دفع نسبة الـ20 %، ويعالجون مجاناً.
هذا التوجّه، والذي أقَر أكثر من مسؤول حاليّ في وزارة الصحّة، تحفظوا على ذكر أسمائهم، أنّه نتيجة ضغط متواصل من المستشفيات الخاصة، يأتي في وقت يعاني فيه صندوق التّأمين الصحي من "العجز الواضح".
وهو التعبير الذي استخدمه تقرير رفعه في آب (أغسطس) 2011، وزير الصحّة الدكتور عبد اللطيف وريكات، إلى رئيس الوزراء آنذاك معروف البخيت، ولفت فيه إلى أن كلفة الفاتورة العلاجية التي يتكبدها الصندوق سنوياً هي 114 مليون دينار، في حين أن مخصصاته لا تتجاوز 80 مليون دينار، أي بعجز مقداره 34 مليون دينار سنويّاً.
ووفق التقرير، فإن ارتفاع فاتورة العلاج خارج مستشفيات ومراكز الوزارة، هو واحد من الأسباب الأساسية وراء عجزه.
وبحسب تصريحات صحفية لوريكات، نهاية العام الماضي، فقد بلغ عجز الصندوق للعام 2011 وحده 56 مليون دينار.
لكن عجز الصّندوق، ليس السّبب الوحيد للاعتراض على التوسّع في الاتفاقية، إذ يشدد مختصّون على وجوب إعادة النّظر فيها من الأساس، لأنّها بوضعها القائم تنطوي، كما يؤكدون، على مواطن خلل، حوّلها إلى واحد من أوجه الهدر في الإنفاق الصحي الحكومي، ووفق هؤلاء، فإنه ليس من المنطق توسيعها، دون إجراء تقييم حقيقي لتجربة الخمس سنوات التي مضت على تطبيقها.
وفوق هذا وذاك، هناك المخاوف المشروعة من أن "تسليم" وزارة الصحّة مرضاها بالكامل إلى القطاع الخاص، وإنفاق مبالغ ضخمة على علاجهم في مستشفياته، بدلا من استثمارها في تحسين الخدمات الصحية الحكومية المقدمة لهم، يهدد بتدمير قطاع الصحّة العام، وقد يمهد لخصخصته بالكامل.
خدمات فندقية "تليق" بالمعالي والعطوفة
قبل توقيع الاتفاقية، كانت تغطية صندوق التّأمين الصحي لكلفة علاج المُؤمَّن في القطاع الخاص، مقيّدة بشروط، وعندما تقرر رفع هذه القيود عن مُؤمَّني الدرجة الأولى، كان المبرّر وقتها، هو افتقار المستشفيات الحكومية إلى "الخدمات الفندقيّة" التي تناسب هؤلاء.
وقد أثار هذا وقتها الكثير من الجدل، لأن وزارة الصحّة تحظى بميزانية ضخمة، بلغت العام 2007، وهو عام توقيع الاتفاقية %6.1 من الموازنة العامة للدولة، ارتفعت العام 2011 إلى 6.3 %، وكانت قد وصلت العام 2010 إلى 8 %، والمنطق هو أن تسعى الوزارة إلى تحسين الخدمات الفندقية (وغير الفندقية) في مستشفياتها بدلاً من شرائها، كما يرى خبراء.
وفق أرقام حصلت عليها "الغد" من إدارة التّأمين الصحي، بلغت كلفة إنفاق وزارة الصحّة العام 2000 على العلاج في المستشفيات الخاصة 5.400 مليون دينار تقريباً، تضاعفت العام 2006 إلى 10 ملايين.
وفي العام 2011، ارتفعت فاتورة المستشفيات الخاصة إلى 14 مليونا تقريباً، كان نصيب الدرجة الأولى منها 8.500 مليون دينار، بنسبة 61 % تقريباً، من مجمل الإنفاق على العلاج في المستشفيات الخاصة.
وفق الأرقام ذاتها، فإن عدد مُؤمَّني الدرجة الأولى للعام 2011 هو 74 ألفاً تقريباً، من أصل 1.400 مليون موظف حكومي من مختلف الدرجات، وهم بذلك يشكّلون 5 %، وهذا يعني أن 61 % من الإنفاق كان من نصيب 5 % من المنتفعين، في حين تقاسم النسبة الباقية مؤمّنو الثانية والثالثة، ومرضى الكلى، وإعفاءات رئاسة الوزراء.
إنّها أرقام تعيدنا إلى أجواء المفاوضات على الاتفاقية، التي رأى فيها معارضوها "تمييزاً" مارسته الحكومة لصالح فئة كبار موظّفيها، "على حساب" بقيّة المُؤمَّنين صحيّا.
ليس فقط لأن "حق" التمتع بخدمات فندقية مميزة (أو في الحقيقة إنسانية) حُصِر بمُؤمَّني الدرجة الأولى، بل لأنّ التشريعات التي أقرت بالتوازي تضمن أن تدفع باقي الفئات الممولة للصندوق، وليس فئة كبار الموظفين، كلفة هذا التمييز.
فكبار الموظفين لا يدفعون كما سبق الذكر الـ20 % التي يدفعها البقية، وهم أيضاً لا يدفعون في الغالب كامل الـ3 % قيمة الاقتطاع الشهري المقرر، لأن نظام التّأمين وضع سقفا للاقتطاع هو 30 ديناراً، رفعت بعدها إلى 50 ديناراً، بغض النظر عن الراتب.
ما سبق هو التطبيق العملي لما يصفه خبير الإدارة الصحية، والأستاذ في جامعة الشارقة، الدكتور ياسين الهياجنة بأحد الأشكال "المشوّهة" للخصخصة.
في هذا النوع من الخصخصة، كما يقول هياجنة، لا يدفع المنتفع كلفة الخدمة التي تمّت خصخصتها من جيبه مباشرة، بما يضمن قيام التوازن المفترض بين بائع الخدمة ومشتريها، بل إن من يقوم بالدفع هو صناديق حكومية.
وتسير الأمور دائماً، كما يقول، بحيث تكون "النخبة الواصلة" من المواطنين هي من يحظى بالخدمة المتميّزة، وهنا "يصبح لدينا قطاع خاص يقدم خدمة إلى مستفيد قوي، لا يدفع هو كلفتها، بل تدفع الحكومة معظمها عنه، وهذه في المحصلة وصفة سحرية لإفلاس أي صندوق".
ولا يمكن هنا التعامل مع توسيع الاتفاقية بوصفه "تعميماً" لهذه الخدمة المميزة، لأن الحكومات وبعد استنزاف أموال هذه الصناديق، وعجزها (كما هو حاصل هنا مع صندوق التّأمين) تعمد بعدها، ومن أجل مواصلة تمويل الخدمة، كما يقول هياجنة، إلى رفع الرّسوم والضرائب، التي تتحملها وفق السياسة الحالية الأغلبية المسحوقة من المواطنين، وهكذا يكون الفقراء هم من سيدفع في النهاية الثمن الفادح للخصخصة.
فواتير دون سقف .. كما لو أننا دولة نفطيّة
توقيع الاتفاقية جاء بعد "مخاض" استمر ثلاث سنوات من المفاوضات بين جمعية المستشفيات الخاصة، ووزارة الصحّة، بذلت خلالها الجمعية التي قادت عملية التفاوض عن مستشفيات القطاع الخاص جهوداً جبّارة للحصول على أفضل عرض، في وقت كانت الوزارة تكافح في وجه الأصوات التي ارتفعت وقتها، محذّرة من أن الاتفاقية سوف تستنزف صندوق التّأمين.
فالمستشفيات الخاصة وإن التزمت وفق الاتفاقية بمنح الوزارة خصماً مقداره 35 % على مجمل المطالبات المالية (خفّضت لاحقا إلى 25 %)، ولكن الاتفاقية من جهة أخرى انطوت على ثغرة "خطيرة" وهي أن هذه المطالبات كانت مفتوحة، أي أن الاتفاقية لم تنصّ على وضع سقف للفواتير.
وهو أمر يقول وزير الصحّة الأسبق الدكتور زيد حمزة إنه مثير للعجب "نتصرّف كما لو أنّنا دولة نفطية، وفي الحقيقة هذا أمر لا تفعله حتى أغنى الدول في العالم، لأنه من المعروف أن الفواتير المفتوحة هي وصفة لإفلاس أي صندوق، وهي تفتح الباب واسعاً أمام التحايل على التّأمين الصحي من قبل بعض مقدّمي الخدمة، الذين قد يطبقون إجراءات طبية مكلفة، لا تستدعيها حالة المريض".
إن ما هو متبع عالميا كما يقول حمزة، هو تحديد تسعيرة لكل إجراء، فيكون مثلاً لعملية الولادة الطبيعية سعر، وللقيصرية سعر، ولعملية القلب المفتوح سعر، وهكذا، والفكرة هي أن "نفس الإجراء الطبي يمكن أن تتفاوت كلفته حسب كل حالة، فتنقص الكلفة أو تزيد ضمن نسبة معينة، وهنا يتم التوافق على سعر محدد، يكون في المحصلة عادلاً للطرفين".
إضافة إلى ذلك، كان هناك اعتراض أثارته، قبل توقيع الاتفاقية، اللجنة الصحية في مجلس الأعيان، على بند يضيف بموجبه المستشفى 30 % على أسعار المستلزمات الطبية، و15 % على أسعار الأدوية المعتمدة، والتي تصبح عمليا 30 %، لأن الوزارة، كما لفتت اللجنة، تشتري أصلاً الدواء أقل بـ15 % من سعره المعتمد.
لقد اعتبرت اللجنة آنذاك أن دفع الوزارة ثمنا للمستلزمات الطبية والأدوية يزيد بنسبة 30 % على كلفتها عليها داخل مستشفياتها "عبء" على موارد الصّندوق، وطالبت باعتماد لائحة الأسعار الرسمية في كل الحالات، ولكن هذا لم يحدث.
بل إن ما حدث، هو أنه في العام التالي لتطبيق الاتفاقية، ونتيجة ضغوطات المستشفيات الخاصة، أُجريت تعديلات عليها، تمّ بموجبها تخفيض نسبة الخصم الذي تحصل عليه الوزارة من 35 إلى 25 %.
كما رُفعت نسبة الكلفة المضافة على سعر الدواء من 15 إلى 25 %، إذا كان متوفراً في عطاءات وزارة الصحة، و10 % على سعر المستودع في حالة الأدوية غير المتوفّرة في العطاء.
ومع أنّ رئيس جمعية المستشفيات الخاصّة الدكتور فوزي الحموري، أكّد لـ"الغد" أنّ الاتفاقية "وفّرت" على الصندوق، لأن الخصم الذي بدأت الوزارة بالحصول عليه بموجب الاتفاقية، لم تكن تحصل على مثله قبلها، إلا ان إدارة التّأمين الصحي أوضحت لـ"الغد" أن إضافة نسبة على أسعار الأدوية والمستلزمات الطبية لم يكن متبّعاً قبل الاتفاقية، بل هي كُلف استجدّت معها.
ومع ذلك، أي مع أن الاتفاقية اعتُبرت وقتها مجحفة لصندوق التّأمين الصحي، إلا أن المستشفيات الخاصة واصلت طوال السنوات الماضية الشكوى من أنّ العديد من بنودها "غير عادل" بالنسبة لها، بل وهددت أكثر من مرة بفسخها بدعوى ارتفاع الكلف التشغيلية.
و"الطّريف" أنه وفي نفس الوقت الذي كانت فيه المستشفيات الخاصة تشكو من أن الاتفاقية غير عادلة لها، فإنها واصلت طوال السنوات الماضية المطالبة بتوسيعها لتشمل الدرجتين الثّانية والثّالثة. وقد حدث هذا في اجتماع "طارئ" عقدته جمعية المستشفيات الخاصة في أيلول (سبتمبر) 2008، وتكرر عدة مرات بعدها، آخرها في بيان أصدرته الجمعية أيضاً في كانون الأول (ديسمبر) 2011.
ووفق الحموري، فإن شمول جميع المُؤمَّنين كان جزءاً من الاتفاق مع الوزارة منذ البداية، إذ "كانت الخطة أن نبدأ بالدرجة الأولى في أول سنة، ثم يتم شمول بقية المُؤمَّنين في السنتين اللاحقتين، لكن الوزارة خالفت هذا الاتفاق".
تدقيق فواتير "الخاصة" خفّضها بمقدار الثّلث تقريبا
الأمر الآخر الذي واصلت المستشفيات الخاصة الاعتراض عليه هو آلية تدقيق المطالبات المالية التي، تقوم بها شركة خاصة، إذ بدأت المستشفيات، وبعد سنة واحدة من تطبيق الاتفاقية بالمطالبة بإحلال كوادر وزارة الصحّة محل الشّركة الخاصة لتدقيق المطالبات المالية بدعوى أن هذه الشركة تجري خصومات "غير عادلة" على الفواتير.
وهنا أيضا، كما يقول الحموري "أخلّت" الوزارة باتفاقها مع المستشفيات، فقد تم التوافق على أن تعمل الشركة الخاصة سنة واحدة فقط، تقوم خلالها بتدريب كوادر وزارة الصحّة، لتسلم المهمة إليهم في السنة التالية.
يذكر أن عملية التدقيق، تتولاها شركة سكوب الإماراتية، وتسير وفق آلية متابعة معينة تبدأ لحظة دخول المريض إلى المستشفى إلى خروجه، تليها عملية تدقيق للمطالبة المالية، تقوم الشركة فيها بخصم كل الكلف التي تقدّر أنّه لم يكن لها داع.
وفق الحموري، فإن بعض المستشفيات "تتعرض لخصومات غير مبررة"، وحدث في حالات، كما قال، أن قدّمت مستشفيات اعتراضات، وتمت مراجعة الخصومات، وأعيدت إليها مبالغ مالية.
الأمر الذي تنفيه مساعدة المدير العام لشركة سكوب، الدكتورة رانيا الشواهين، التي تؤكّد أنه لم يسبق خلال الخمس سنوات السابقة أن تمّ ردّ أي مبلغ لأي مستشفى نتيجة غبن في عملية الخصم، وأن كل الخصومات التي أجرتها الشركة على الفواتير طيلة هذه السنوات تمّت إجازتها.
ولكن يحدث أحياناً، كما تلفت الشواهين، أن "يكون هناك نقص في الوثائق التي تُطلب من المستشفى، فتخصم الشركة المبلغ الذي لا يكون هناك وثيقة تثبته، ولكن إذا عاد المستشفى وزوّدنا بها، يعاد إليه المبلغ، وهذه كانت الحالات الوحيدة التي تمّ فيها التراجع عن خصم".
وفي وقت يؤكّد فيه مسؤول في وزارة الصحّة، تحفظ على ذكر اسمه، أن عملية التدقيق خفّضت فاتورة المطالبات المالية للعام 2011 وحده من 20 مليون دينار إلى 14 مليونا تقريبا، تلفت الشواهين إلى أن الدّليل على صحة كل الخصومات التي أجرتها الشركة، هو أنه خلال جميع سنوات الاتفاقية، لم يقم أي مستشفى برفع أي دعوى قضائية للطّعن في صحّتها.
الاتفاقية مقدّمة لخصخصة قطاع الصحّة العامة
أكبر مواطن الخلل في الاتفاقية كما يقول حمزة هو أنها جعلت قرار التوجه إلى المستشفى الخاص في يد المريض، وليس في يد لجنة حكومية مختصة، تقرر أن حالته تستدعي فعلا العلاج في الخاص، كما كان النّظام سابقاً.
وهذا، كما يقول خطأ قاتل لأنّه يعني إلغاء دور الطّبيب العام الذي من المعروف علميا أنه يمكن أن يعالج 90 % من الحالات المرضية، وبكلفة أقل بكثير من كلفة التوجه إلى المستشفى مباشرة.
ولاسيما إذا كان المستشفى الذي سيذهب إليه المريض خاصّاً، كما يقول حمزة "حيث يبدأ العداد بالعمل بمجرد دخوله، وتبدأ سلسلة الفحوصات والإجراءات الطبية التي لا يكون لها بالضرورة داع، وربما يُتَّخذ قرار بإدخال المريض بدعوى الاطمئنان عليه، ويكون هذا في الحقيقة لتسمين الفاتورة، وهكذا تجد الحكومة أن ما كان يمكن أن يكلفها 5 دنانير عند الطبيب العام، كلفها 500 دينار في المستشفى الخاص".
ويشير هياجنة في هذا السياق، إلى أن للتّحايل على التّأمين الصحي، أشكالاً أخرى غير "تسمين" الفاتورة بإجراءات غير ضرورية، ومنها، تقديم خدمة معينة، ثم إرسال الفاتورة باسم خدمة أخرى، كأن يتلقى المستفيد خدمة لا يغطّيها تأمينه، ويسجّل في فاتورته خدمة أخرى يغطّيها التّأمين، إضافة إلى إدخال مريض باسم مريض آخر، أو تحميل نفقات مريض على فاتورة مريض آخر وغيرها.
وجميعها، وفق هياجنة، آليات احتيال يمكن أن تضبطها إجراءات التدقيق المشدّدة "ولكن من يضمن أن تُطبّق هذه الإجراءات دائماً بشكل فعّال؟".
من هنا تبرز الحاجة كما يشدد إلى "وقفة حازمة، وخطة واضحة تحمي الموارد المحدودة لصندوق التّأمين الصحي، ويمكن هنا إقرار تشريع معمول به في الولايات المتحدة، ويكافَأ بموجبه كلّ من يبلّغ السلطات عن حالة احتيال على التّأمين، بمنحه نسبة 10 % من قيمة مبلغ الاحتيال".
تشريع كهذا، حسب هياجنة، سيكون "فاعلاً في تخفيف الهدر الناشئ عن الاحتيال، وسيضمن كفاءة الخدمة الصحية المقدّمة".
إن الاتفاقية كما يقول حمزة، أخرجت جزءاً من مُؤمَّني وزارة الصحّة من المنظومة الصحية الحكومية، وتوسيعها هو عمليا إخراج للبقية، وتسليمهم إلى القطاع الخاص، وهذا سيؤدّي إلى "تدمير" هذه المنظومة، إذ "من سيراجع المركز الصحّي الحكومي، إذ كان بإمكانه الذّهاب مباشرة إلى مستشفى خاص؟!".
لقد كان على الحكومة، وبدلاً من عقد هذا النوع من الاتفاقيات كما يقول حمزة، أن تعتني بنظام الرعاية الصحية الأولية الذي وضعت أسسه العام 1986، وتمّ في إطاره إنشاء مراكز صحية أولية وشاملة غطّت كل مناطق المملكة، واعتمد على فكرة توزيع الخدمة الصحية، فالحالات البسيطة يعالجها الطبيب العام في المركز الأوّلي، ومن يحتاج إلى علاج متخصص يحوّل إلى المركز الشامل، ومن يحتاج إلى دخول يحوّل إلى المستشفى.
وكان يمكن لتطبيق هذا النّظام بحزم وتطويره، كما يقول، أن يخفف معظم الضّغط الهائل على المستشفيات الحكومية، وهو الضغط الذي أدّى إلى تردي خدماتها، ليستخدم هذا التردي بعدها كذريعة لشراء خدمات القطاع الخاص.
ويضرب حمزة هنا مثلا هو المراكز الشاملة، التي كان من المقرر وفق النظام أن تقدمّ خدمة العلاج التخصّصي، ولكن هذا لم يحدث لأن أطباء الاختصاص لا يداومون في هذه المراكز بل في المستشفيات، وبحسبه، فإن أحد وزراء الصحّة أجابه عندما سأله عن سبب عدم إلزام أطباء الاختصاص بالدوام في المراكز الشاملة بقوله "ما قدرنا عليهم".
الأمر الآخر الذي يشدد حمزة على أنّه خلل في السياسة الحكومية لإدارة ملف التّأمين الصحي، هو التقصير الحكومي المتواصل في تطبيق قانون الضمان الاجتماعي في ما يتعلّق بإلزام أصحاب العمل في القطاع الخاص بتأمين مستخدميهم صحيّاً، فالحكومة "ما تزال تسمح لأرباب العمل بالتهرّب من مسؤولياتهم، وما تزال تتحمّل عنهم كلفة علاج موظّفيهم، في حين أن تحمّل القطاع الخاص لمسؤوليته هذه، سوف يرفع عبئاً كبيراً عن كاهل الوزارة، ما يسمح لها بتحسين خدماتها".
"اللّي معوش ما يلزموش"
بعد خمس سنوات من تطبيق الاتفاقية، هل كان معارضوها، السابقون والحاليّون، محقّين في اعتراضاتهم؟ وهل أسهمت الاتفاقية فعلاً في هدر أموال الصّندوق؟
محاولة الإجابة عن هذا السؤال، تثير أسئلة أخرى، هي كيف تنظر وزارة الصحّة إلى هذه التجربة؟، وهل قامت بتقييمها؟ وهل استندت إلى أي نوع من الدراسة العلميّة المنهجية للسنوات الماضية، وبناء عليه استمرت في تجديد الاتفاقية، ثم اتّجهت نحو توسيعها؟
لقد وجّهت "الغد" هذا السؤال عدّة مرّات أثناء الإعداد لهذا التقرير، ولعدّة جهات معنيّة، وطلبت نسخة من هذه الدراسة في حال أنّها تمّت، ولكنها لم تتمكن من الحصول على أيّ إجابة.
ولكن تظلّ حقيقة أن الكلفة التي من المتوقّع أن تترتّب على فتح أبواب المستشفيات الخاصّة أمام جميع المؤمّنين "مرعبة".
لقد كلّف مؤمّنو الدرجة الأولى وحدهم، وعددهم 74 ألف مواطن 8.400 ملايين دينار، العام 2011، فكم يمكن أن يكلّف إذن مؤمَّنو الثانية والثالثة، الذين يزيدون قليلا على 1.300 مليون مواطن.
علماً بأن كلفة علاج الثانية والثانية في المستشفيات الخاصّة، بلغت العام 2011 (بعد استثناء نفقات مرضى الكلى، وإعفاءات رئاسة الوزراء) 610 آلاف دينار، بنسبة 4.4 %، من مجمل إنفاق العلاج في المستشفيات الخاصّة.
في الختام، فإن منح مُؤمَّني الثّانية والثّالثة امتياز العلاج في المستشفيات الخاصة دون قيود سيكون خبراً مفرحاً للمعنيّين.
ولكن هذا سيكون فقط للوقت الحاضر، لأنه عندما تنجح الهجمة على القطاع الصحي العام، وعندما يُجهَض، كما يقول هياجنة، كلّ جهد يهدف إلى تعزيز دور الحكومة في الرعاية الصحية "سيبدأ عندها التأسيس لمرحلة جديدة، لا يكون فيها للحكومة دور في تقديم هذه الخدمة، وستخلو الساحة بذلك، وبشكل تدريجي للقطاع الخاص، الذي سيفرض عندها أسعاره الاحتكارية"، وبحسب تعبير حمزة "وقتها اللّي معوش ما يلزموش". ( الغد )