لهذا أغار !!

سقطت من ثقوب ذاكرتنا أمثال ومواعظ وحكايات كنا نسمعها صغاراً وهي تتقطر من رحيق خبرة طويلة لأجيال، وما لم يسقط من الذاكرة بعد مثل أقرب الى الحكمة يقول : من لا يغار فان أباه حمار..
والغيرة في هذا السياق التربوي ليست حسداً أو نزعة عدوانية للاستيلاء على ما يملكه الآخر، انها تحفيز وتحريض على تحقيق الذات والعلوّ بها، لهذا أغار من مثقف يشعرني بالجرح عندما يتناول ظاهرة أو قضية من مختلف أبعادها وأسعى على الفور لاستكمال ما ينقصني حولها، وأغار من رجل يضع كرامته وكبرياءه في المكانة الأعلى من كل سلاسل الجبال حتى لو كانت من ذهب وماس.
وأغار من انسان أحب بلاده ولم يكذب عليها استرضاء لطرف ما وقرر أن يفتديها اذا تطلب الأمر بروحه.
وأغار من عاشق تخطى أدبيات الغزل العربي والشعري الكاذب، لأنه كما تقول ايريس ميروخ في أنبل تعريف لها للعشق بأنه مجرد الاعتراف بأن هناك كائناً ما يعيش خارج الذات فلا نملكه ولا يملكنا وتسعدنا سعادته حتى لو لم يكن لنا شأن بها!.
وأغار من شهيد كغسان كنفاني سوف يعيش الى القيامة وهو في السادسة والثلاثين من العمر وفي الرواية السادسة والمقال الحاسم الذي يرفض ما قاله المتنبي عن نكد الدّنيا على الفتى اذا كان له عدو ما من صداقته بُدّ!
وأغار من كاتب وشاعر من طراز فاليري الذي قال بأنه أصبح أطول قامة من أبيه لأن أباه يحمله على كتفيه.
وأغار من مذكرات حمزاتوف ونيرودا ويفتشنكو وماري بشركتسيف وجان جاك روسو والقديس اوغسطين ومحمد شكري.. لأنهم جازفوا باعترافات غير عابئين بالعقاب أو الثواب من مجتمعات مصابة بالشيزوفرينا حيث الكلام مشطور الى ليلي ونهاري.
وأغار من ابن تبرع لأبيه بكليته السليمة لأنه اجتاز اختبارا انسانيا عسيرا، وأغار من شقيق رضي بحظه من التعليم المتواضع ليعلم أخاه الاصغر في أرقى جامعات العالم.
وأغار من قصيدة يكتبها شاعر يهودي من طراز يهودا أميحاي عن بلادي اذا كانت جميلة.
وأغار من أب تمرد على نظرية فرويد المسماة جريمة قتل الاب لأنه اعترف لابنه بأن يكون أباه.
وأغار من ثري من طراز بيل جيتس حين يتخلى عن ثروة هي أرقام فلكية بالنسبة لنا لصالح فقراء العالم.
لكني لا أغار من رجل اطول منيّ اذا استخدم طول قامته للانحناء.
ولا أغار من كاتب كتب بماء وجهه ونال أجراً لا أحلم بمثله.
ولا أغار من أخ تواطأ على دم أخيه وقضى ما تبقى من عمره يأكل لحمه.
ولا أغار من مثقف قرر أن يتحول الى مطية لأمي أو ملقط لسلطة وامتلك القارات الخمس.
نعم، سقطت من الذاكرة الغربالية حكم ومواعظ وامثولات لكن بعضها تغذى من التجارب وبمرور الأيام، فالكلب الذي لا يذبح مهما سمن، عبارة لم تقلها سيمون دو بوفوار أو اميلي دكنسون بل أمي الأمية، والعب مع السباع حتى لو اكلتك عبارة لم يقلها سقراط أو ديكارت، بل قالها رجل عربي فلاح نبت العشب من أصابعه في قبره المضاء بعينيه!!.( الدستور )