جذور الداء والدواء!!

استكمالاً لحوارات متقطعة دارت بين المفكر وأستاذ علم الاجتماع سيد ياسين، وبيني، في عمان والقاهرة، أجد ان ما أثاره مؤخراً حول الحراك العربي، هل هو اجتماعي أم سياسي؟.
رغم ان الفصل بين هذين البُعدين ليس ممكناً لأنهما يشكلان المكبوت المزدوج لدى ذات مقهورة، وما يراه الاستاذ ياسين حول التشابه بين مناخات التغيير في مصر وتونس من خلال رائدين هما خيرالدين التونسي ورفاعة الطهطاوي يفتح الباب على مصراعيه لمراجعة جذور النهضة والتحديث في العالم العربي منذ القرن التاسع عشر، فالأمر لم يكن متوقفاً عند هذين الرائدين على اختلاف الصيغة والنهج لأن النهضويين القادمين من الشام الى مصر أمثال الكواكبي، لعبوا دوراً بالغ التأثير في حراك مبكر، لكنه تعرض لعدة اجهاضات متعاقبة، وسوف نبدد الكثير من الوقت والجهد اذا استغرقتنا المقاربات النظرية أو حتى التسميات رغم أهمية دلالاتها، فما انفجر وهو الآن ايضاً قيد التفجر في الواقع العربي عدد من المكبوتات المتداخلة، فالاستبداد السياسي منذ وصفه باسهاب الكواكبي في كتابه «طبائع الاستبداد» لم يكن بعيدًا عن الاستبداد الاجتماعي، لأن السلطة المستبدة تتغذى من التخلف وتحاول اعاقة النّمو كي يتسنّى لها الحصول على ما يشبه بوليصة تأمين سياسية ضد التغيير والعودة بنا الى جذور هذا الحراك الذي لم يولد كنبت شيطاني او من صدع في جدار، لها أهمية بالغة، ليس فقط لفحص البدايات وما هجع فيها من ممكنات أو نواقص، بل لأن التاريخ سياق متصل وليس دودة شريطية، بحيث يتحول الى جمل معترضة، أو أشباه جمل لها مبتدأ بلا خبر أو العكس.
فعلى سبيل المثال، لعبت الوطنية المحلية في مصر في ثورة عام 1919 دوراً في بلورة الوعي والشعور بالمواطنة، وحين تعرضت أقطار عربية غير مصر لأخطار التفكيك لم تجد في احتياطيها الوطني تلك الحلقة المحلية، لهذا لم يكن عسيراً تفكيكها بدءاً من البنية العسكرية حتى النسيج الديمغرافي.
ويبدو أن ما يسود الآن لاستقراء الحراك العربي على تفاوت منسوبه بدءاً من الاصلاحي حتى الراديكالي، يمكن تصنيفه أولياً في منهجين وأسلوبين.. الأول توصيفي يبدأ من النهايات، والآخر تحليلي معمق يبدأ من حيث ينبغي له أن يبدأ أي من جذور هذا الحراك ومن معركة التحديث التي اصطدمت بعدة عوائق، وهذا ما عبر عنه كاتب عربي هو د. رفعت السعيد في كتاب له بعنوان التنوير من ثقب إبرة.
المنهج التوصيفي، اضافة الى سطحيته وافقيته يغفل الغاطس من جبال الجليد سواء في الماء أو في الدّم، لهذا يتورط بالتفكير الاسقاطي والانفعالي فلا يرى من المشهد غير ما يريد رؤيته، بعكس النهج الثاني والذي ارى أن تقاربات سيد ياسين من نماذجه، فهو يعود الى ما قبل قرن وربما أكثر ليعاين أوضاعاً عاشتها هذه المجتمعات وهي تلثغ بأبجديات التحول باعتباره افرازاً بكراً وعضوياً لمعركة الاستقلال.
لهذا يخطىء من يقول أن من رآهم ويراهم الآن في ميادين وشوارع العواصم هم الأحياء فقط، ففي خلفية المشهد، ثمة رواد من طراز خيرالدين التونسي والطهطاوي والكواكبي ورشيد رضا وآخرين. فالثورة الناجحة قد تكون حاصلاً لتراكم وجمع عدة محاولات أخفقت، لهذا نحتاج الى استقراء آخر وفكري في الصميم لهذا الحراك، ببعديه السياسي والاجتماعي!. ( الدستور )