مسحّراتي الظّهيرة!!

ينهي التقدم العلمي صلاحية بعض المهن، لأن هناك ما يحل مكانها، لكن الحنين البشري الى المهن اليدوية دافع عنها ضد الانقراض، ومنها ما تحول الى فلكلور أو نمط من الصناعات الباهظة الثمن لمجرد أنها ممهورة بالبصمات الانسانية.
مسحراتي النهار من طراز آخر، وحتى الآن لا وجود له، الا في آخر أيام رمضان لهدف آخر غير ايقاظ النائمين، واذا كان مسحراتي الليل يوقظ النيام من سباتهم الجسدين فان مسحراتي النهار يفعل شيئاً آخر، هو ايقاظ المستغرقين في السبات العقلي كي لا يمضي المستغرق في أوهامه حتى النهاية، ويصبح كالسائر وهو نائم أو ما يسمى «المُسرنم» بحيث لا يدري متى يرتطم بما لا يشتهي وتكون السقطة الأخيرة.
وباختصار؛ فإن المستغرقين في الأوهام أو ضحاياها باختيارهم هم الذين قرروا أن يؤدوا التحية لأنفسهم أمام المرايا ويستسلموا لتداعيات لا آخر لها تزيّن لهم حتى لحظات الانكسار والهزيمة، والفارق بين الموهوم والموهوب ليس أمراً نسبياً يراه كل فرد كما يريد، لأن ذلك لو كان صحيحا، لكانت المستشفيات النفسية تعج بالاباطرة والحماء والنجوم.
فالمرء لديه الحق في أن يرى نفسه كما يشاء، شرط أن يجد بعضاً من الآخرين يشاركونه في ذلك، فما من جنرال بلا جيش وأسلحة الا اذا كان أحد المرضى الذين يعالجون في المصحّات النفسية، وما من كاتب أو شاعر بلا كتابات وأشعار ونقاء وقراء، وحين يوجد مثل هذا الكائن فهو أيضاً مصاب في صميم العقل، ويجب أن يعالج على الفور.
ومن قالوا أن هناك حباً من طرف واحد اخطأوا مرتين، فما من حب كهذا، كما انه ما من صداقة من طرف واحد، وبالتالي ما من قبلة ينفذها الانسان مع نفسه إلا اذا أصيب بجنون النرجسية وتفلطح أنفه وشفتاه على زجاج المرآة.
من الناحية السايكولوجية؛ فإن من يستسلمون للاوهام وخداع الذات مع سبق الاصرار هم المهزومون الذين قرروا أن لا تحك جلودهم غير أظافرهم؛ فتولوا نيابة عن الآخرين تمجيد الذات والتسبيح بحمدها وسرد قوائم انتصاراتها.. رغم أن كل ذلك مجرد أوهام اذا ما قدر لضحيتها أن يصحو منها قبل الأوان فإن المصاب جلل، ولدينا الآن في عالمنا عوامل وأدوات عديدة تضاعف من عدد ضحايا الأوهام، بحيث يصبح كل شيء مجرد شبه للأصل ويتحول الانسان الى كائن من ورق أو زبد، ثم يصبح كضحية تلك الاسطورة الاغريقية الذي حكم عليه حين يجوع أن تدنو من شفتيه العناقيد كي تسيل لعابه ثم تنأى، وحين يشعر بالعطش تدنو من شفتيه المُشققتين صنابير الماء العذب ثم تنأى.
ان لضحايا الأوهام عقابين، أحدهما عاجل يتجسد في الحرمان والآخر آجل يتلخص في الندم على اضاعة العُمْر من غير طائل.
وأخطر ما في هذه المسألة ان يتحول الوهم الى ظاهرة بحيث يصبح وبائياً، عندئذ لا تنفع مسحراتي الظهيرة ولا أجراس العالم كله في ايقاظ ضحايا الغيبوبة!!. ( الدستور )