تركيا والعرب ونظرية «الرجل المريض»

تعهدت تركيا “اتخاذ كل ما يلزم من خطوات” لمنع انتشار وتمركز مقاتلي حزب العمال الكردستاني على مقربة من حدودها مع سوريا، باعتبار أن المسألة تندرج في سياق الدفاع عن “الأمن القومي” وتبرر لأنقرة فعل كل ما تراه مناسباً لدرء هذا “التهديد الإرهابي” المحتمل، حتى وإن كانت نسبته لا تتعدى “الواحد بالمائة” كما قال أحمد داوود أوغلو.
حسناً، نحن لا نجادل في حق تركيا في حفظ “أمنها الوطني”، ونؤيدها تماماً في موقفها الرافض لأي “شكل من أشكال التدخل في شؤونها الداخلية”، كما نرفض أن يلوّح لها أو لغيرها، بورقة “الإرهاب” أياً كانت أسبابه وشعاراته وأرديته التي يتدثر بها. نقول ذلك اليوم بالفم الملآن، وكنّا قلناه في العام 1997 بصوت أعلى عندما كان عبدالله أوجلان مقيماً في سوريا على رأس جماعات حزب العمال التي تناصب سلطات أنقرة أشد العداء، وقبل أن يتشكل حزب العدالة والتنمية بزعامة “الترويكا” غول- أردوغان- أوغلو.
لكننا مع ذلك نجد صعوبة في فهم الموقف التركي، ونرى فيه نسخة غير مزيدة وغير منقحة، من المواقف الغربية المنافقة والمزدوجة، فأنت لا تستطيع أن تنهى عن خلق وتأتي بمثله.. لا تستطيع أن ترفض انتشار “الإرهابيين” على حدودك (حزب العمال)، وتسمح في الوقت نفسه بنشر مئات وألوف “المجاهدين” من القاعدة و”الدعوة السلفية للقتال” وكل التسميات التي نعرف والتي نعرف، الذين احتشدوا لمقاتلة النظام السوري، ونشر رايات إسلامهم “العنيف” وليس “الحنيف” في مختلف ربوع بلاد الشام.
نفهم أن يستفز علم الأكراد المرفوع قبالة الحدود التركية النخبة الحاكمة في أنقرة، بيد أننا لا نفهم كيف تسمح تركيا “العدالة والتنمية” لجحافل القاعدة و”المجاهدين” برفع أعلامهم على معبر “باب الهوى”، وتحت مرأى ومسمع عشرات الصحفيين والإعلاميين التي وثّقت المشهد بصور طافت أرجاء الأرض والسماء.
نحن نلتقي تماماً مع الموقف التركي القائم على “مبدأ عدم التدخل في الشؤون الداخلية”، ولكننا بعد أن فضحت الصحافة الغربية، وليس إعلام النظام السوري، “غرف العمليات” في أضنة وأنجرليك، وبعد أن انتشرت الشائعات عن ضلوع تركي في تفجيرات “حي الروضة الدمشقي”، لا نفهم كيف يمكن لتركيا أن تنهى عن سلوك وتأتي بأقبح منه، وبأي حق تعطي أنقرة لنفسها حرية التدخل في شؤون الآخرين، بل وإنشاء غرف عمليات وفتح معسكرات واحتضان قيادات وتوفير ملاذات لمقاتلين وجيوش ومنشقين وإرهابيين واستخباراتيين، في الوقت الذي تمنع فيه على دول مجاورة، شيئاً مماثلاً.
لا ندري إن كانت تجربة الاختراق التركي المتكررة للأجواء والحدود السيادية مع العراق، هي ما تخطط أنقرة لفعله في سوريا، أم أنها تنوي الذهاب أبعد من ذلك، وصولاً لفرض “ملاذات آمنة” أو “أشرطة حدودية” داخل الأراضي السوري، وما إذا كانت إجراءات كهذه، ستكون من النوع المؤقت أم الدائم، لا سيما أن الذاكرة ما زالت تحتفظ بتصريحات ومواقف تركية، تبكي أمجاداً عثمانية غابرة في مناطق عديدة من العراق وسوريا.
لا تستطيع تركيا أن تجعل من أراضها وحدودها حواضن دافئة للإخوان المسلمين والجيش السوري الحر وجحافل المحاهدين وحقول تدريب وتأهيل تسرح فيها وتمرح مختلف أجهزة الاستخبارات العربية والعالمية، ودائما حسب الصحافة الغربية الصديقة لتركيا، وليس إعلام دمشق المعادي لها، لا تستطيع تركيا أن تفعل كل ذلك وتزعم في الوقت نفسه بأنها لا تتدخل في “الأزمة السورية”، وتتوقع من الآخرين أن يصدقوها وأن يكفّوا عن التدخل في شؤونها أو المس بأمنها الوطني.
والحقيقة أن الشهية التركية لدور “كاسح” في المنطقة، تدفعها للتصرف كدولة لا تحترم القانون الدولي ولا تقيم وزناً لسيادة الدول، وإلا كيف نفسر إقدامها على عقد صفقات نفطية مع أربيل، بالضد مما تريده بغداد. لا ندري كيف تدير ظهرها لحكومة العراق المركزية وتعقد مختلف صنوف الصفقات مع “الكيان الكردي” لكأن تقسيم العراق في الحسابات التركية قد وقع وتحقق وانتهى الأمر.
لا يمكن تفسير هذا السلوك التركي، الذي يأتي نقيضا لكل ما بشّر به “فيلسوف” العدالة والتنمية، إلا بتفشي نزعات الهيمنة وتفاقم النهم للسيطرة على ثروات المنطقة وأسواقها، فضلا عن تنامي “المكوّن المذهبي” في صنع السياسة الخارجية لدولة “الإسلام العلماني”. لا يمكن تفسير كل هذا الذي يجري على حدود تركيا الجنوبية إلا بإحساس أنقرة بأن “العرب” باتو رجل الشرق الأوسط المريض، وأن الوقت قد حان، لتصحيح ما تعتقده بعض النخب التركية “خطأ التاريخ” الذي وقع قبل مائة عام أو يزيد.
لكن الأمر الذي لا جدال فيه ولا مراء، هو أن تركيا بسياساتها قصيرة النظر هذه، إنما تثير كل مكنونات القلق والمخاوف في العالم العرب، وتسيء لصورتها ودورها، كدولة صاعدة، تحترم القانون الدولي وتعتمد على قوة “النموذج” و”القوة الناعمة” و”صفر مشاكل”.
تركيا خسرت خلال عشرة أشهر، ما عملت عليه طوال عشر سنوات، ومسلسل الخسارة لم يتوقف بعد، والسحر ربما يكون قد انقلب على الساحر، أو هو في طريقه إلى ذلك.
( الدستور )