في الطريق إلى «كردستان الكبرى»

يحتفظ إقليم كردستان العراق بوضعية «الدولة شبه المستقلة»، التي لا تحتاج لاستكمال استقلالها، سوى لإعلان رسمي من جانبها...برلمان منتخب وحكومة تدير الإقليم..جيش وأمن وشرطة، أسلحة ثقيلة وسياسة دفاعية مستقلة وعلاقات دولية خاصة..عقود نفط واستيراد وتصدير تبرمها من «وراء ظهر» العاصمة المركزية وبالضد من إرادتها...تحالفات إقليمية ودولية تختص بها وتنفرد...مواقف وسياسات خارجية مناقضة لمواقف العاصمة بغداد تصل حد التدخل المباشر في مجريات الأزمة السورية..مَنْ مِنْ إقاليم الحكم الذاتي أو «الفيدراليات» في العالم، يتمتع بما يتمتع به إقليم كردستان...هذه دولة مستقلة، وليست «فيدرالية» من ضمن العراق.
وضع الأكراد في سوريا يتجه نحو مصير مماثل...في حمأة الأزمة العراقية تصرف أكراد سوريا بنفس الطريقة التي تصرف بها أسلافهم وإخوانهم العراقيون...»النأي بالنفس» عن مختلف مشكلات سوريا والاهتمام فقط بمصائر الأكراد وحقوقهم...لا تحالفات مقدسة أو دائمة، لا مع النظام ولا مع المعارضة...التكتيك الوحيد المقدس هو «انتزاع ما يمكن انتزاعه» من حقوق، أو ما يعتقد أنه حقوق لهذه الأقلية...تأخذ من النظام ما تستطيع، ولا بأس من وجود قوى كردية مؤيدة للنظام أو قريبة منه إن كان ذلك سيساعد في توسيع مساحة الحقوق والمكتسبات...ولا بأس من الانخراط في المجلس الوطني السوري، بل ورئاسته، إن كان ذلك سيعجّل في «الفرج»...وإذا كان حزب العمال الكردستاني ((PKK هو النموذج الملهم للكيانية الاستقلالية للأكراد عموماً، فلا بأس من تشكيل مرادف له في القامشلي وعفرين وغيرها من مدن وقرى وبلدات شمال شرق سوريا.
إدارة ذاتية لمناطق الكثافة الكردية في سوريا...ميليشيات مسلحة وتدريب على السلاح والتنظيم والإدارة...جميع خبرات وإمكانيات الإقليمي المجاور رهن التصرف والإشارة...انتخابات مبكرة لـ»مجلس شعب غرب كردستان»...اتصالات دولية لطمأنة الجوار تفادياً لغضبة تركية لا تُبقي ولا تذر...علاقات مع موسكو ورسائل لدمشق وطهران وواشنطن وبروكسيل...العمل في كل الاتجاهات، وبمختلف الوسائل، من أجل أن يُسمح للتاريخ بأن يعيد نفسه مرة أخرى، وتشاء الجغرافيا في شمال سوريا، بعد شمالي العراق.
الصراع السنّي – الشيعي في العراق، سمح لأكراده بأن يكونوا «بيضة قبان» المعادلة العراقية مع أنهم لا يصلون إلى عشرين بالمائة من سكانه، صاروا «الملاذ الآمن» للجميع، و»صوت العقل» عندما غابت عقول قادة العراق الجدد أو غُيّبت...أما الصراع السنّي – العلوي في سوريا، فسيسمح لأكراد سوريا بفعل شيء مماثل...النظام «القومي» الذي تجاهل حقوقهم القومية كأقلية، سارع إلى منح الجنسية السورية لأكثر من ربع مليون كردي غير مسجل، والأهم، أنه أخلى جميع مناطقهم من قواته وإداراته وأجهزته، وسلمها لهم لقمة صائغين، يصوغون فيها كتاب مستقبلهم واستقلالهم اللاحق.
أما المعارضات السورية «المنافقة» فلم تفعل شيئاً غير الإسهام في تسهيل مهمة أكراد سوريا الاستقلالية «الانفصالية»، ونقول منافقة لأنها تتحدث بلسانين على الأقل، وتعتمد القاعدة الميكافيللية أساساً لعلاقاتها وتحالفاتها الراهنة...فطالما أن الركض وراء السلطة هو الهدف، فلا بأس من «تسهيل مهمة الأكراد حيناً» و»إرضاء الجانب التركي القلق» حيناً آخر...لا بأس من رفض التوقيع على وثيقة هنا وقبوله هناك، طالما أن الرقص على حبال «الأطراف الداعمة والمانحة والراعية» قد صار «استراتيجية عليا».
تركيا المسكونة بهاجس «المسألة الكردية» تجد نفسها وجهاً لوجه مع أسوأ كوابيسها: غرقها في البحث عن أقصر الطرق للإطاحة بالأسد، جعلها تقبل بـ»شرعنة» الكيان الكردي في شمال العراق، ومن مفارقات التاريخ أن تركيا الأكثر عداء للكيانية الكردية المستقلة، قد جعلت من إقليم كردستان «الدولة الأولى بالرعاية» وهي من فتح له باب التسلح والصفقات والعقود والتحالفات الدولية المستقلة عن بغداد والموجهة ضدها، ولن يكون بمقدور أنقرة بعد اليوم، أن تنهى أربيل عن فعل شيء كانت هي السبّاقة لفعله، لا في السياسة والسلاح والتسلح، ولا في التجارة والنفط والعقود والصفقات.
وفي سياقات الأزمة السورية وتداعياتها، ستجد أنقرة نفسها، عاجلاً أم آجلاً، إمام كيان كردي آخر، شبه مستقل ولكن على طريق الاستقلال عن الوطن الأم، ولن يكون بمقدورها أن تفعل شيئاّ غير «الجعجعة التي لا طحين من ورائها»....فالأزمة السورية التي امتدت لأكثر من أشهر ثلاث وفقاً لأحمد داود أوغلو، خرجت عن السيطرة والتحكم، وهي مرشحة لإطلاق ديناميكيات سيكون الكيان الكردي السوري، واحداً من أكثرها ترجيحاً.
والحقيقة ان العرب مطالبون بمراجعة مواقفهم من «المسألة الكردية»، ولقد تأخروا عن فعل ذلك خشية خسارة وحدة أوطانهم وثرواتها...اليوم لم يعد لديهم ما يخسرونه جرّاء مثل هذه المراجعة، وعليهم التفكير جدياً في سيناريو انبعاث «كردستان الكبرى»...وضحايا سايكس – بيكو العرب لا ينبغي عليهم أن يقفوا في مواجهة ضحايا سايكس بيكو الأكراد...لقد انسلخ الأكراد عن الأمة العربية أو هم في طريقهم إلى ذلك بصورة نهائية أو شبه نهائية، الكرة الآن في ملاعب الأمم الأخرى في المنطقة...العرب دفعوا الثمن من وحدة دولهم وأوطانهم، وكانوا بذلك يسددون فواتير عجزهم وضعفهم وخطاياهم التي قارفوها بحق إخوانهم الأكراد، وهي كثيرة لمن أراد الإنصاف...بيد أن الأمم الأخرى، الأتراك والفرس، لم تكن براء مما حاق بالأكراد ولحق بهم.
الآن تشهد المنطقة ولادة أمة تمتلك موضوعياً ولأول مرة منذ قرن، فرصة استعادة وحدتها وكيانيتها...هذا لن يحصل في فراغ...هذا سيحصل على حساب العرب والأترك والفرس، ولقد ساهم الجميع في إيصال المنطقة إلى هذه «الخلاصة» وعلى الجميع أن يدفع حصته من الثمن (التعويض) للأمة الكردية، وليس العرب وحدهم.
(الدستور )