قصة صعود وهبوط المجلس الوطني السوري

لأشهر معدودات خلت، بدا أن المجلس الوطني السوري يكاد يصبح “ممثلاً شرعياً وحيداً” للشعب السوري...هو استوهم ذلك وعمل عليه، حتى أنه بات ينظر لبقية أطياف المعارضة بوصفها “أجراما تدور في فلكه”، فإما أن تلتحق به وإما أن تواجه مخاطر الترك والنسيان...ولقد شهدت بأم العين، كيف نظرت قيادات عليا في المجلس (مكتب تنفيذي) إلى بقية تيارات المعارضة، نظرةً ملؤها الفوقية والإستعلاء.
وزاد الطين بلة، إقدام “أصدقاء سوريا” في اجتماع اسطنبول على الاعتراف بالمجلس ممثلاً “شرعياً” للشعب السوري...يومها طاشت الرؤوس ولمعت الأعين ببريق السلطة الدانية على ظهور دبابات الأطلسي وأجنحة الإف-16، وإن ظلت في الحلوق غصة جراء خلو اعتراف “الأصدقاء” من كلمة “الوحيد”...إلى أن جاء اجتماع تونس الموسع، ليخرج المجلس بخريطة انتقال لسوريا، لم تلحظ دوراً لأحد غير المجلس والجيش الحر.
اليوم، تبدو أسهم المجلس الوطني في هبوط حاد...واشنطن وكثير من العواصم “نفضت أيديها” منه، بعد أن سئمت خلافاته وانقساماته، وبعد أن فشلت مساعيها الرامية “لم شمل المعارضة” وبعد أن أظهرت التطورات على الأرض، “هامشية” الدور الذي يضطلع به المجلس، فضلاً عن إخفاقه في تجسيد التعددية السياسية والفكرية والإجتماعية والسكانية السورية، إذ ظل المجلس أسير الفصيل المهيمن فيه: الإخوان المسلمون وتفرعاتهم.
لقد فشل المجلس في توحيد المعارضة، ولم يحفظ وحدته الداخلية...فشل في طمأنة بقية مكونات الشعب السوري، وانغمس في لعبة الرقص على خطوط المذاهب وحواف الطوائف...لقد فشل في تقديم النموذج لسوريا الغد، ففاحت قصص فساده وتزاحم مكوناته على “كعكة” السلطة والجاه والمال والإعلام..لقد ظهر في هيئة “مجلس خبراء سياحة وسفر” منه إلى “مجلس قيادة ثورة”، فاستحق ما يجابه اليوم من عزلة وتآكل في شعبيته والاعتراف به.
أضف إلى ذلك، أن المجلس الموزع الولاءات ما بين أنقرة والرياض وواشنطن وباريس والدوحة، كان أعجز من أن يقدم “بديلاً لسوريا”..فبات جزءاً من المشكلة بدل أن يكون مفتاح الحل...وتحول إلى حمولة فائضة يجري التخلص منها على مهل، ومن دون ضجيج، بدلالة التوجه الجديد لدى بعض عواصم القرار الدولي والمتمثل في البحث عن بدائل من بين المنشقين حديثاً عن النظام (حجاب، طلاس ومن هم على شاكلتيهما) والتعاطي المباشر مع المعارضة المسلحة على الأرض (الجيش الحر والمليشيات الإخوانية والسلفية)...حتى أن السيدة كلينتون لم تجد نصف ساعة أو أقل على جدول أعمالها المزدحم، لقضائها مع قيادات المجلس المقيمة في تركيا في أثناء زيارتها الأخيرة لأنقرة.
ولهـذا السبب أيضاً طوى “الوسطاء” و”سعاة الخير” حكاية وحدة المعارضة السورية...ليس هناك من مبادرات أو مبادرين على هذا الصعيد (يبدو أن الأمر صار شبيها بأحاديث المصالحة الفلسطينية المُملة)...فالقناعة المتولدة لدي مراكز صنع القرار الإقليمي والدولي بدأت تتجه للحسم على الأرض والأرض ليست ملكاً للمجلس الوطني، لا الخاضع منها لسيطرة الجيش النظامي ولا تلك “المتحررة” من سيطرته...الأرض صارت ملك “العسكر” على ضفتي معادلة الصراع الدائر في سوريا.
المجلس الوطني الذي واكبنا نشأته واستضفنا عدداً من قياداته بعيد تشكيله بشهر واحد فقط، وكررنا الاستضافة بعد ذلك عدة مرات، أقول أن هذا المجلس وُلِدَ مأزوماً، وعانى خللاً بنيوياً منذ اليوم الأول لتشكله...معظم قياداته المُؤسِسَة لم تختبر معارك المواجهة السياسية وتفتقر للكفاحية بدلالة أن أياً منها لم ينتقل إلى الداخل السوري مع أنهم يتحدثون عن “تحرير ما يقرب من ثلثي الأراضي السورية”، ولا يكفون عن الإشادة بمناقبية مناضلي الثورة السورية وأبطالها، متناسين أن الحديث عن البطولة يمكن أن يجعل من صاحبه “حكواتياً” هابطاً بيد أنه لا يجعل منه بطلاً على الإطلاق.
ثم أن المجلس اعتمد “استراتيجية للتغيير في سوريا” تنهض على محور واحد أوحد: التدخل العسكري الدولي، مفترضين أن المجتمع الدولي سيقوم بالمهمة نيابة عنهم، ولم يكن لدى أغلب قياداته الاستعداد لمناقشة أية احتمالات وسيناريوهات بديلة، بل ولم تكن هذه القيادات لتقيم كبير وزن لجهود توحيد المعارضة فلسان حالها يقول: ما قيمة الوحدة إن كانت أداة الحسم والتغيير في سوريا ليست سورية؟!.
ومن أجل استدراج التدخل العسكري الدولي (استراتيجيتهم الوحيدة)، لم يدخر المجلس وسيلة إلا واستخدمها لاستعجاله...تحالف مع عواصم “الأجندات المذهبية”، ودافع عن “الزواج الحرام” بين النفط والوهابية، ودخل في “لعبة التطمينات والضمانات لإسرائيل”...وانخرط في مسرحية التهويل الإعلامي التي تشرع “المتاجرة” بالدم والأشلاء، إلى غير ما هنالك من أدوات وأساليب، لم يترتب عليها سوى فقدان المجلس لصدقيته وموثوقيته.
لقد عرضوا على شعبهم ثلاث خيارات (حرفياً)، وهنا أتحدث كشاهد عيان فعلياً (وليس من الغرف المجاورة): التدخل الدولي...الحرب الأهلية وتقسيم سوريا...بقاء النظام بقيادة الأسد، السيناريو الأول هو الأفضل، والأخير هو الأسوأ...والسيناريوهات الثلاث كما هو ملاحظ، لم تلحظ دوراً فاعلاً للشعب السوري، بل تحصره بدور “المفعول به”...ولأنهم “حيدوا” الشعب السوري الذي انفصلوا عنه طويلاً فقد حيدهم هذا الأخير وشق طريقه بمعزل عنهم، وكان طبيعياً والحالة كهذه، أن يواجهوا اليوم خطر العزل والعزلة الدوليين.
المجلس الوطني السوري الذي صعد سريعاً على المسرح الدولي، عاد للهبوط سريعاً كذلك..ولولا بعض الحسابات الدولية النابعة من مصالح الدول الراعية (فرنسا، قطر وتركيا وبتفاوت) وحاجتها لمحسوبين وأتباع لاندثر المجلس وصار أثراً بعد عين، وربما في هذا السياق، وفي هذا السياق فقط، يمكن إدراج زيارة قيادة المجلس لباريس ولقاءاته مع هولاند وفابيوس.(الدستور)